مياو...بقلم جويدة
مرسل: 15 سبتمبر 2021, 14:39
مياو
استيقظت وسط حلكة الليل البهيم، أتصبب عرقا، مع أنني اخترت النوم أمام عتبة الغرفة، طلبا لبعض النسائم، كي لا ينقطع منامي كسائر ليالي شهر أغسطس.
حاولت تبين مكاني في غيهب الليل، تسارعت نبضات قلبي حتى شعرت أنه سيتوقف. أين أنا؟ في القبر؟ في المشفى؟ في بيت من أنا؟ بيت أمي، أختي، حماتي، بيتي؟ فزعت لجهل الإجابة؟ ازدادت ضربات قلبي حين تساءلت أين مريم؟ لقد سمعتها تبكي للتو.
انسابت ذكرياتي دفعة واحدة كالشلال، لأجد أجوبة لكل مسائلي: أنا ببيتي، أمام باب الغرفة مباشرة، أفترش لحافا لتحاشي الحر، ومريم ماتت منذ سنتين.
انتظمت ضربات قلبي لتخفق من جديد ... لكن ما الذي أيقظني؟ متأكدة أنني سمعت صوت رضيع يبكي.
لعنت الشيطان وتأففت من فرط الحر، تحسست منديلا أمسح به كل السوائل التي انتجها جسدي من الهلع والحر ...وجدته بعد جهد وغضب، فمررته على جبيني وعنقي وألقيته جانبا وارتميت على الفراش منهكة القوى كمن قضى ليله في سباق للركض.
قبل أن تبدأ الاحلام، وقبل أن أفقد شيئا من إدراكي وبالكاد أغمضت عيني، عاد الصوت من جديد ...متقطع ضعيف، بعيد، ربما خلف العمارة مباشرة.
انقبض قلبي مرة أخرى، أطرقت السمع، بل أعملت فيه كل جهدي، لأتبين أنها قطة صغيرة.
صوتها، قطع قلبي المنهك، كأنها مريم في أيامها الأولى، شعرت بغصة، وغلبتني دمعة، ثم عزمت على الهروب من شبحها.
عادت القطة تموء وكأنها تطلب النجدة، مرة تلوى مرة.
من ذا الذي يطاوعه قلبه ليلقي بها خارج البيت أو بعيدا عن أمها؟
بدأ تفكيري يشتغل كآلة طباعة، تخيلتها صغيرة مغمضة العينين سمينة، بفرو أبيض وأسود، وبعض البراغيث تتسلى وتتغذى على دمها، احتملت اللون الأزرق لعينيها حين تريا النور ...أحببتها.
تخيلت حين يطلع النهار و يتجمع الصغار في الخارج للعب كرة القدم كالعادة و لإفساد ما يمكن إفساده، كتعليق الأرجوحة عاليا لحرمان الفتيات من اللعب ،و وضع الرمل على بعض الألعاب لحرمان الأصغر منهم سنا من التدحرج و ركوب الخيل...سيتنبهون لوجود القطة، سيسعون خلفها ،سيحصلون عليها بسهولة ، سيتقاذفونها بينهم ، ستقع أرضا عن عمد أو غير عمد ، و ستتأذى ولن يبالوا ،وحين يملون من العبث بها سيسحقونها تحت أقدامهم كي يظهروا شدة قسوتهم و بأسهم و كي لا يحصل عليها أحدهم دون الآخر ، ستنفجر كبالون ممتلئ ، سيضحك الصغار ثم يغادرون بغير أسف ،و ستسحق ما بقي من جثتها السيارات ، و ستبقى هناك حتى يتحلل جسدها و يقضي عليه الدود .
انقبض قلبي مما شاهدت ولم أشاهد، ناديت على زوجي بلطف، فلم يستجب، رفعت صوتي، ليرد على وكأنه في قاع بئر،
- ماذا هنالك؟
- أسمع صوت قط صغير في الخارج، ذكرني بمريم
- وماذا تريدين؟
- أحضره حالا.
ساد صمت طويل...ظننته يفكر، ربما تأثر بذكر صغيرتنا، ربما تعاطف معي وأشفق على حالي، لعله سيميل نحوي ويربت علي ويطلب مني العودة للنوم والنسيان، لعله يتدبر فكرة احضار قطة للبيت ويقلبها برأسه، فالاعتناء بقط بداخل شقة ليس بالأمر الهين.
تداركني اليأس بمرور الوقت، وأيقنت أنه لا فكّرو لا دبّر، إنما غلبه النوم فاستسلم له دون السؤال عن شيء.
راودتني فكرة-وكثيرة هي أفكاري -أقوم لتوي من فراشي، أرتدي حجابي وأخرج بنفسي لأحضرها، فإن أدركني زوجي تظاهرت بالسير نوما وإن لم يفق، أغامر بالخروج وأحضر قطتي لأنقذها من براثن الأطفال والجوع والعطش، وتهوّر أصحاب السيارات.
لكن ...ماذا لو لم تنطل عليه الفكرة واعتبر خروجي تمردا وأنا التي لا تغادر ساعة من النهار بيتها إلا بإذنه، كيف أخرج ليلا؟ وماذا لو احتد شجار بيننا ووصل حد رمي الطلاق علي؟ أو فضح فعلتي أمام أهلي؟ سيقول: غافلتني وخرجت في جنح الظلام ...ماذا سيظن الناس بي؟ سيقولون إما مجنونة وإما أنها كانت تبيت أمرا عظيما.
يا ألهي ...لا يمكن أن يفعل هذا بي، هو يعرفني ككف يده، يعرف جنوني وتعقلي ويعرف صدقي وخداعي.
وإن احتملت أنه لم يفق، ولبست عليّ حجابي، وخرجت في دياجير الظلام بحثا عن القطة، فصادفني شباب الحي ولم يتعرفوا على إلا كامرأة خارجة بالليل تنشد شيئا ما ،ولن يدور بخلدهم أنها قطة، سيكون أغلبهم أو كلهم في عالم آخر بعد تناول المأكولات والمشروبات السرية المذهبة للبصر و البصيرة...لا أريد تخيل الامر.
زممت فمي وثبت لساني كي لا يتحرك فتسترسل أفكاري معه مرة أخرى، فان خبت، انغمست في النوم بسهولة.
أرخيت جسدي المنهك، واستسلمت للنوم بعد أن كفت القطة عن مناداتي.
حين شعشع الصبح وجدت زوجي متأهبا للخروج دون تناول فطور الصباح، كان يسارع الخطى لأنه تأخر عن موعد العمل، وكنت اتمطى كالقطط سعيدة لكوني لم أغامر ليلة أمس مجرورة خلف عواطفي.
عاد صوت القطة من جديد يناديني، يشتت أفكاري ويقلب كياني.
أطبقت شفتي بقوة كي لا أطلب منه أن يحضر القطة، سيقول لي بالتأكيد أنه تأخر عن العمل، وسيزعجني ذلك، وأسررت في نفسي أن أحضرها بيدي بعد أن ينصرف في أمان الله.
تذكرت فجأة كلمات صديقتي كنانة حين استشرتها يوما بأمر إحضار قطة سيامو إلى البيت، كانت إحدى قريبات زوجي قد عرضتها عليّ حين أنجبت قطتها خمسا من الهريرات.
قالت إنها قد تختار حذاء زوجي لتلقي بداخله برازها ...يا ويلي هو يعشق أحذيته ويهتم لنظافتها وأناقتها أيّما اهتمام...سيلقيني والقطة خارج البيت إن هذا وقع.
حتى لو أعملت جهدي وفكري في تنظيفها، ماذا عن طفيلي التوكسو بلازما وأمراض القطط الأخرى؟ تبا ...لا أريد أن أمرض زمن كورونا واعتلال المؤسسات الطبية.
يا إلهي ...مواؤها يصرعني، يعذبني ويشظيني...ليتها تكف!
حضّرت القهوة متجاهلة مواء القطة المتزايد على أنغام نبضات قلبي القوي ورقصات جسدي المرتعش كله.
زممت فمي من جديد، أحاول منع نفسي من الفعلة الكبرى ...لم أستطع لجمها، لبست حجابي وخرجت تاركة مائدة الإفطار بالانتظار.
فتحت باب العمارة فصعقني شعاع الشمس الساطع، إذ لم أبارح بيتي منذ أكثر من شهرين، فلا رغبة لدي، ولا مبرر للخروج.
هل اتجه يمنة أم يسرة؟ يا ربي، لما توقف مواؤها الآن؟ ماذا سيقول الناس عني؟ تائهة في حيي؟
ها هي تناديني من جديد...دق قلبي وابتسمت.
تتبعت مصدر الصوت بسهولة، إنها أسفل السيارة، خفت أن يقلع صاحبها دون التنبه لوجودها، وهي قليلة الخبرة، ولن تحرك ساكنا إن سمعت المحرك يدور فيحدث المحظور.
انحنيت لأراها ...كانت كما تخيلت، بيضاء مع سواد، لكنها كانت أكبر، بعيون مفتوحة خضراء ...أحببتها أكثر.
ناديت عليها، فشعرت بحركة خلفي، كان حارس السيارات جالسا يراقبني ويدقق في انحناءاتي ...تبا.
وقفت ممتعضة، ونزلت عموديا، شعرت بالدوخة والإعياء، ولكنني لم استسلم ... كدت أموء مثلها كي أغشّها فتظنني أمها فتخرج، لكنني عدلت عن ذلك، كي لا يظن الرجل بي السوء أو يعتقد بأني مجنونة.
مددت يدي نحوها أوهمها أنني أحمل طعاما ...كان عل] أن أحمل لها شيئا بالفعل، قد أنساني البلوغ حيل الطفولة لاستدراج الحيوانات.
انطلت الخدعة عليها واتجهت نحوي تشم يدي، فحاولت إمساكها ولكنها كانت أسرع فانسلت مني، وعادت تحت السيارة من جديد.
حمت وصلت وجلت، وأرهقني التعب، وآذتني الشمس، حتى صرت أنادي عليها" تعالي يا ابنتي"، ضاربة عرض الحائط مظهري ومركزي ...المهم كان أن أصحب القطة معي الآن.
أزعجني تيبس نظر الرجل باتجاهي، حتى كدت أصيح به:
- أتحرس السيارات أم تحرسني؟
لكنني أسررتها بنفسي مراعاة لزوجي وسني وشكلي.
جلست على قارعة الطريق كمتسولة تنتظر رزقا، وإذ بسيدة تحمل كيسا من قماش وتضع كمامتها الطبية، فلا يظهر من وجهها إلا عينيها، وبعضا من جبين أحمر لفحته الشمس كثيرا، تقف أمامي، وتسألني
- هل هذه قطتك؟
- لا، لكنني أريد أخذها
- إنها قذرة
- سأنظفها
- ألا تخشين الأمراض؟
- حاليا يا سيدتي، بنو البشر هم سبب الأمراض
- هل تسكنين هنا؟
تملكني الغضب من فضول السيدة حتى كدت أنهرها لكنني تعقّلت وقلت
- في العمارة المقابلة
- هل وصلت قسيمة الكراء؟
تبا ...هل تظنني ساعي البريد؟
تجاهلت سؤالها وناديت على القطة كي تفهم من تلقاء نفسها أنها تزعجني
- تعالي يا ابنتي
- ابنتك؟
من خلف الكمامة شعرت أنها ضحكت واستفزني الأمر بشدة، وكدت أرد
- ما دخلك؟ لما تسألين؟ لما تكلمينني أصلا؟ أتعرفينني؟
لكنني تعقّلت ورددت:
- منذ البارحة ليلا والقطة تموء جوعا، لم يلتفت إليها أحد، وقد أوصانا الرسول بالاعتناء بها، فهم الطوافون وهم سبب لدخول الجنة، ثم يا سيدتي أن مواءها ذكرني بطفلتي الرضيعة التي ماتت منذ مدة.
شعرت أن كلماتي وصلت أخيرا إلى قلبها كسهم أصابها، فتحرك صدرها لها حتى اهتز هزة ظاهرة للعين...ترحمت عليها وعادت من حيث جاءت.
تراها نسيت طريقها الى السوق، اذ كان حملها للكيس يوحي بذلك؟ أم أنه كان مجرد تمويه لتقصي خبري؟
كررت المحاولة لإخراج القطة واصطحابها، ترمقني عيون الحارس التي صارت مائة عين بدل اثنين، وكأنه يشاهد فيلما سينمائيا من نوع المغامرات الشيقة ...حتى استحييت من نفسي وعدت أدراجي إلى البيت أشق الطريق بين غدو ورواح في نفسي.
كنت غاضبة من زوجي ومن الحارس ومن المرأة الفضولية ومن القطة ذاتها وجلست أرتشف قهوتي في غير اشتهاء لأسمع الصبية يتضاحكون ...نظرت من خلال النافذة وشاهدتهم يلاعبون القطة، فتلاحقهم حيثما ذهبوا وتسعى خلف آخرهم رافعة ذيلها كعمود العلم وقد سرّها وجودهم وأغاضني اندماجهم حد الحنق، اذ أمضيت ليلتي في بكاء وقلق وغضب مخافة أن يؤذوها وتبين صبحا أنها لا تريد سواهم صاحبا.
استيقظت وسط حلكة الليل البهيم، أتصبب عرقا، مع أنني اخترت النوم أمام عتبة الغرفة، طلبا لبعض النسائم، كي لا ينقطع منامي كسائر ليالي شهر أغسطس.
حاولت تبين مكاني في غيهب الليل، تسارعت نبضات قلبي حتى شعرت أنه سيتوقف. أين أنا؟ في القبر؟ في المشفى؟ في بيت من أنا؟ بيت أمي، أختي، حماتي، بيتي؟ فزعت لجهل الإجابة؟ ازدادت ضربات قلبي حين تساءلت أين مريم؟ لقد سمعتها تبكي للتو.
انسابت ذكرياتي دفعة واحدة كالشلال، لأجد أجوبة لكل مسائلي: أنا ببيتي، أمام باب الغرفة مباشرة، أفترش لحافا لتحاشي الحر، ومريم ماتت منذ سنتين.
انتظمت ضربات قلبي لتخفق من جديد ... لكن ما الذي أيقظني؟ متأكدة أنني سمعت صوت رضيع يبكي.
لعنت الشيطان وتأففت من فرط الحر، تحسست منديلا أمسح به كل السوائل التي انتجها جسدي من الهلع والحر ...وجدته بعد جهد وغضب، فمررته على جبيني وعنقي وألقيته جانبا وارتميت على الفراش منهكة القوى كمن قضى ليله في سباق للركض.
قبل أن تبدأ الاحلام، وقبل أن أفقد شيئا من إدراكي وبالكاد أغمضت عيني، عاد الصوت من جديد ...متقطع ضعيف، بعيد، ربما خلف العمارة مباشرة.
انقبض قلبي مرة أخرى، أطرقت السمع، بل أعملت فيه كل جهدي، لأتبين أنها قطة صغيرة.
صوتها، قطع قلبي المنهك، كأنها مريم في أيامها الأولى، شعرت بغصة، وغلبتني دمعة، ثم عزمت على الهروب من شبحها.
عادت القطة تموء وكأنها تطلب النجدة، مرة تلوى مرة.
من ذا الذي يطاوعه قلبه ليلقي بها خارج البيت أو بعيدا عن أمها؟
بدأ تفكيري يشتغل كآلة طباعة، تخيلتها صغيرة مغمضة العينين سمينة، بفرو أبيض وأسود، وبعض البراغيث تتسلى وتتغذى على دمها، احتملت اللون الأزرق لعينيها حين تريا النور ...أحببتها.
تخيلت حين يطلع النهار و يتجمع الصغار في الخارج للعب كرة القدم كالعادة و لإفساد ما يمكن إفساده، كتعليق الأرجوحة عاليا لحرمان الفتيات من اللعب ،و وضع الرمل على بعض الألعاب لحرمان الأصغر منهم سنا من التدحرج و ركوب الخيل...سيتنبهون لوجود القطة، سيسعون خلفها ،سيحصلون عليها بسهولة ، سيتقاذفونها بينهم ، ستقع أرضا عن عمد أو غير عمد ، و ستتأذى ولن يبالوا ،وحين يملون من العبث بها سيسحقونها تحت أقدامهم كي يظهروا شدة قسوتهم و بأسهم و كي لا يحصل عليها أحدهم دون الآخر ، ستنفجر كبالون ممتلئ ، سيضحك الصغار ثم يغادرون بغير أسف ،و ستسحق ما بقي من جثتها السيارات ، و ستبقى هناك حتى يتحلل جسدها و يقضي عليه الدود .
انقبض قلبي مما شاهدت ولم أشاهد، ناديت على زوجي بلطف، فلم يستجب، رفعت صوتي، ليرد على وكأنه في قاع بئر،
- ماذا هنالك؟
- أسمع صوت قط صغير في الخارج، ذكرني بمريم
- وماذا تريدين؟
- أحضره حالا.
ساد صمت طويل...ظننته يفكر، ربما تأثر بذكر صغيرتنا، ربما تعاطف معي وأشفق على حالي، لعله سيميل نحوي ويربت علي ويطلب مني العودة للنوم والنسيان، لعله يتدبر فكرة احضار قطة للبيت ويقلبها برأسه، فالاعتناء بقط بداخل شقة ليس بالأمر الهين.
تداركني اليأس بمرور الوقت، وأيقنت أنه لا فكّرو لا دبّر، إنما غلبه النوم فاستسلم له دون السؤال عن شيء.
راودتني فكرة-وكثيرة هي أفكاري -أقوم لتوي من فراشي، أرتدي حجابي وأخرج بنفسي لأحضرها، فإن أدركني زوجي تظاهرت بالسير نوما وإن لم يفق، أغامر بالخروج وأحضر قطتي لأنقذها من براثن الأطفال والجوع والعطش، وتهوّر أصحاب السيارات.
لكن ...ماذا لو لم تنطل عليه الفكرة واعتبر خروجي تمردا وأنا التي لا تغادر ساعة من النهار بيتها إلا بإذنه، كيف أخرج ليلا؟ وماذا لو احتد شجار بيننا ووصل حد رمي الطلاق علي؟ أو فضح فعلتي أمام أهلي؟ سيقول: غافلتني وخرجت في جنح الظلام ...ماذا سيظن الناس بي؟ سيقولون إما مجنونة وإما أنها كانت تبيت أمرا عظيما.
يا ألهي ...لا يمكن أن يفعل هذا بي، هو يعرفني ككف يده، يعرف جنوني وتعقلي ويعرف صدقي وخداعي.
وإن احتملت أنه لم يفق، ولبست عليّ حجابي، وخرجت في دياجير الظلام بحثا عن القطة، فصادفني شباب الحي ولم يتعرفوا على إلا كامرأة خارجة بالليل تنشد شيئا ما ،ولن يدور بخلدهم أنها قطة، سيكون أغلبهم أو كلهم في عالم آخر بعد تناول المأكولات والمشروبات السرية المذهبة للبصر و البصيرة...لا أريد تخيل الامر.
زممت فمي وثبت لساني كي لا يتحرك فتسترسل أفكاري معه مرة أخرى، فان خبت، انغمست في النوم بسهولة.
أرخيت جسدي المنهك، واستسلمت للنوم بعد أن كفت القطة عن مناداتي.
حين شعشع الصبح وجدت زوجي متأهبا للخروج دون تناول فطور الصباح، كان يسارع الخطى لأنه تأخر عن موعد العمل، وكنت اتمطى كالقطط سعيدة لكوني لم أغامر ليلة أمس مجرورة خلف عواطفي.
عاد صوت القطة من جديد يناديني، يشتت أفكاري ويقلب كياني.
أطبقت شفتي بقوة كي لا أطلب منه أن يحضر القطة، سيقول لي بالتأكيد أنه تأخر عن العمل، وسيزعجني ذلك، وأسررت في نفسي أن أحضرها بيدي بعد أن ينصرف في أمان الله.
تذكرت فجأة كلمات صديقتي كنانة حين استشرتها يوما بأمر إحضار قطة سيامو إلى البيت، كانت إحدى قريبات زوجي قد عرضتها عليّ حين أنجبت قطتها خمسا من الهريرات.
قالت إنها قد تختار حذاء زوجي لتلقي بداخله برازها ...يا ويلي هو يعشق أحذيته ويهتم لنظافتها وأناقتها أيّما اهتمام...سيلقيني والقطة خارج البيت إن هذا وقع.
حتى لو أعملت جهدي وفكري في تنظيفها، ماذا عن طفيلي التوكسو بلازما وأمراض القطط الأخرى؟ تبا ...لا أريد أن أمرض زمن كورونا واعتلال المؤسسات الطبية.
يا إلهي ...مواؤها يصرعني، يعذبني ويشظيني...ليتها تكف!
حضّرت القهوة متجاهلة مواء القطة المتزايد على أنغام نبضات قلبي القوي ورقصات جسدي المرتعش كله.
زممت فمي من جديد، أحاول منع نفسي من الفعلة الكبرى ...لم أستطع لجمها، لبست حجابي وخرجت تاركة مائدة الإفطار بالانتظار.
فتحت باب العمارة فصعقني شعاع الشمس الساطع، إذ لم أبارح بيتي منذ أكثر من شهرين، فلا رغبة لدي، ولا مبرر للخروج.
هل اتجه يمنة أم يسرة؟ يا ربي، لما توقف مواؤها الآن؟ ماذا سيقول الناس عني؟ تائهة في حيي؟
ها هي تناديني من جديد...دق قلبي وابتسمت.
تتبعت مصدر الصوت بسهولة، إنها أسفل السيارة، خفت أن يقلع صاحبها دون التنبه لوجودها، وهي قليلة الخبرة، ولن تحرك ساكنا إن سمعت المحرك يدور فيحدث المحظور.
انحنيت لأراها ...كانت كما تخيلت، بيضاء مع سواد، لكنها كانت أكبر، بعيون مفتوحة خضراء ...أحببتها أكثر.
ناديت عليها، فشعرت بحركة خلفي، كان حارس السيارات جالسا يراقبني ويدقق في انحناءاتي ...تبا.
وقفت ممتعضة، ونزلت عموديا، شعرت بالدوخة والإعياء، ولكنني لم استسلم ... كدت أموء مثلها كي أغشّها فتظنني أمها فتخرج، لكنني عدلت عن ذلك، كي لا يظن الرجل بي السوء أو يعتقد بأني مجنونة.
مددت يدي نحوها أوهمها أنني أحمل طعاما ...كان عل] أن أحمل لها شيئا بالفعل، قد أنساني البلوغ حيل الطفولة لاستدراج الحيوانات.
انطلت الخدعة عليها واتجهت نحوي تشم يدي، فحاولت إمساكها ولكنها كانت أسرع فانسلت مني، وعادت تحت السيارة من جديد.
حمت وصلت وجلت، وأرهقني التعب، وآذتني الشمس، حتى صرت أنادي عليها" تعالي يا ابنتي"، ضاربة عرض الحائط مظهري ومركزي ...المهم كان أن أصحب القطة معي الآن.
أزعجني تيبس نظر الرجل باتجاهي، حتى كدت أصيح به:
- أتحرس السيارات أم تحرسني؟
لكنني أسررتها بنفسي مراعاة لزوجي وسني وشكلي.
جلست على قارعة الطريق كمتسولة تنتظر رزقا، وإذ بسيدة تحمل كيسا من قماش وتضع كمامتها الطبية، فلا يظهر من وجهها إلا عينيها، وبعضا من جبين أحمر لفحته الشمس كثيرا، تقف أمامي، وتسألني
- هل هذه قطتك؟
- لا، لكنني أريد أخذها
- إنها قذرة
- سأنظفها
- ألا تخشين الأمراض؟
- حاليا يا سيدتي، بنو البشر هم سبب الأمراض
- هل تسكنين هنا؟
تملكني الغضب من فضول السيدة حتى كدت أنهرها لكنني تعقّلت وقلت
- في العمارة المقابلة
- هل وصلت قسيمة الكراء؟
تبا ...هل تظنني ساعي البريد؟
تجاهلت سؤالها وناديت على القطة كي تفهم من تلقاء نفسها أنها تزعجني
- تعالي يا ابنتي
- ابنتك؟
من خلف الكمامة شعرت أنها ضحكت واستفزني الأمر بشدة، وكدت أرد
- ما دخلك؟ لما تسألين؟ لما تكلمينني أصلا؟ أتعرفينني؟
لكنني تعقّلت ورددت:
- منذ البارحة ليلا والقطة تموء جوعا، لم يلتفت إليها أحد، وقد أوصانا الرسول بالاعتناء بها، فهم الطوافون وهم سبب لدخول الجنة، ثم يا سيدتي أن مواءها ذكرني بطفلتي الرضيعة التي ماتت منذ مدة.
شعرت أن كلماتي وصلت أخيرا إلى قلبها كسهم أصابها، فتحرك صدرها لها حتى اهتز هزة ظاهرة للعين...ترحمت عليها وعادت من حيث جاءت.
تراها نسيت طريقها الى السوق، اذ كان حملها للكيس يوحي بذلك؟ أم أنه كان مجرد تمويه لتقصي خبري؟
كررت المحاولة لإخراج القطة واصطحابها، ترمقني عيون الحارس التي صارت مائة عين بدل اثنين، وكأنه يشاهد فيلما سينمائيا من نوع المغامرات الشيقة ...حتى استحييت من نفسي وعدت أدراجي إلى البيت أشق الطريق بين غدو ورواح في نفسي.
كنت غاضبة من زوجي ومن الحارس ومن المرأة الفضولية ومن القطة ذاتها وجلست أرتشف قهوتي في غير اشتهاء لأسمع الصبية يتضاحكون ...نظرت من خلال النافذة وشاهدتهم يلاعبون القطة، فتلاحقهم حيثما ذهبوا وتسعى خلف آخرهم رافعة ذيلها كعمود العلم وقد سرّها وجودهم وأغاضني اندماجهم حد الحنق، اذ أمضيت ليلتي في بكاء وقلق وغضب مخافة أن يؤذوها وتبين صبحا أنها لا تريد سواهم صاحبا.