الخيانة في زمن كورونا - (رفعت خالد)
مرسل: 12 يونيو 2021, 21:24
الخيانة في زمن كورونا
إنه زمن (الكورونا)..
لم يكن يتصور أن يعيش مثل هذه الأيام العصيبة.. هو الذي كان يصف أفلام هوليود بالمبالغة في الخيال، والإمعان في التلفيق المُحال. وقد لطالما كان يُشاهد تلكم التمثيليات وهو يبتسم كأنما يقول: (لا يكاد يُصدّق.. لكن الفكرة لا بأس بها).
كان يظن أن هذه الطواعين لا تكون في زمننا، على الرغم من حدوث ما يُماثلها في الأزمان الغابرة ، فقد كان يتصّور – كما الكثير – أن العلم بلغ شأوا عاليا من الدقة والنجاعة حتى لا يكاد شيء يهزمه، فصار يثق بكل ما يُقال له (بحث علمي) أو(دراسة علمية موثوقة) ثقة عمياء لا تتزحزح.. كأن فيها شيئا من التقديس !
والآن دهم العالمَ هذا الفيروسُ الغامض مع مطلع العام الجديد..
* * *
– نعم سيدي.. هاهما.
ألصق هشام تصريح الخروج وبطاقته الوطنية بنافذة السيارة من الداخل. فمدّ الشُّرَطي المكمّم بالخارج عنقه ليقرأ الاستمارة، وحوّل بصره لبطاقة التعريف ليتأكد من الهوية.. ثم لم يلبث حتى استقام مرة أخرى، وأنزل الكمّامة عن فمه ليقول:
– يمكنك سيدّي الذهاب الآن للتبضّع.. وأكرر: عليك ألا تبتعد عن هذه المنطقة، ودكاكينها. ولا تتأخر، فساعة الحظر اقتربت..
شكر هشام للشرطي، وزفر وهو يدوس دوّاسة البنزين مبتعدا..
لطالما احترم رجال الأمن هؤلاء بالرغم من سوء سُمعة بعض المنتسبين لهم كما هي العادة في كل طائفة من البشر.. لكنهم في الأزمات رجال يعوّل عليهم حقا. لا بل إن الغرب يتعلّم منهم كيف تكون مجابهة الأخطار والإرهاب المنظّم.
تلهّى هشام – وألهانا معه – بهذه الخواطر الوطنية وهو يجوب بعض الشوارع التي بدت خالية على عروشها.. أغلب الدكاكين مغلقة، فليس كل أحد يُفضّل المال على السلامة كما يبدو..
حسن هاهوا ذا دكان صغير..
* * *
– السلام عليكم
– وعليكم السلام ورحمة الله.. نعم سيدي.
– أحتاج شيئا من المنظفات ومناديل الورق و..
توقف هشام ليتذكر ما أخبرته زوجه..
– أرجو أن تُسرع يا سيدي، فأنا على وشك إغلاق الدكان.
– أأ.. نعم، نعم. سأحتاج أيضا لبعض المعجنات والخل.. والملح. هذا كل شيء.
أسرع البائع (الأمازيغي) النحيف لجلب ما طلب هشام في مزيج من السرعة ونفاذ الصبر.. كل الباعة هنا أمازيغيون نحيفون لسبب غامض !
ثم دار أخيرا محملا بالأكياس الورقية عائدا إلى سيارته..
شغّل المذياع ما إن أوصد باب السيارة، وبدأت قطرات من المطر تنقر زجاج نافذته وهو يلتهم الطريق بهدوء. يتملّى بأشباح المنازل الهائمة تحت هذا الدوش الصباحي الدافئ.. يا سلام !
أطلق زفرة ارتياح بسبب هذا التغيّر اللطيف في الجو، ثم إنه لم يكد ينهيها حتى دوّى الصّوت المرعب من حيث لا يدري !
أهذا حقا صوتُ نذير الحرب المشهور ؟.. أوَيوجد في مدينته الصغيرة أيضا مثل هذه الأبواق ؟
تلفّت بهلع يمنة ويسرة علّه يعثر على مصدر الصوت، أو سبب إطلاقه..
لا شيء. فقط طيور ترفرف فارّة من على الأغصان وحدانا وزرافات..
ليته يستطيع سؤال أحدها !
* * *
– سيدي.. اسمح لي أن أسألك من فضلك !
قالها هشام من خلال نصف نافذة سيارته المفتوحة، لدركي يركض بسرعة في الشارع مرتديا كمامته التي تُشبه منقار البطة..
– سيدي..
لم يعره الدركي انتباها.. بل زاد من سرعة ركضه بشكل غريب !
وجد هشام نفسه في حيرة وارتباك شديدين.. ماذا حدث ؟ ألسنا في حجر صحي أصلا، فماذا استجدّ يا ترى ؟.. لماذا هذا الإنذار ؟
ارتمت أمام عينيه فجأة سلسلة مدببّة لتسدّ عليه الطريق.. فأطلقت عجلات السيارة صريرا يصمّ الآذان قبل أن تتوقف على بعد سنتمترات من أسنان السلسلة التي تشبه أسنان القرش !
صوت هدير مروحيات، وسرينة إسعاف قادمة من بعيد..
ماهذا الـ.. ؟
* * *
– دكتور هشام السارح.. توقّف مكانك، لا يحقّ لك التجوّل بعد الآن !
كان مصدر الصوت من خلفه، ولماّ نظر إلى المرآة فوقه وجد فيها جنديا يحمل مكبر صوت وقد ترجل من مدرّعة حربية، وبدأ يخطو باتجاه السيارة بحذر..
أمسك هشام بطاقته وتصريح الخروج بحركة آلية.. وأنزل زجاج السيارة قليلا. وانتظر حتى يصل إليه الجندي..
– لقد أدليت بأوراقي عند الخروج يا سيدي..
لم يجبه الجندي.. فقد كان منخرطا في كلام متقطع غير مفهوم من خلال جهازه اللاسلكي، وعينه النسرية ترقب هشام لا تفارقه ..
– دكتور هشام..
– نعم أنا هو.. ما الذي يجري ؟
– ليس من حقك التجوّل بعد الآن.. هذه أوامر عليا.
– كيف ؟..
– ضع كل ما في يدك وترجل من السيارة بهدوء..
– لكن..
– نفّذ ما أقوله بالحرف.. هيا !
* * *
“لا يكاد يُصدّق.. لكن الفكرة لا بأس بها! “
* * *
– حسن.. سأفعل، سأفعل.
خرج هشام من السيارة بتردد، محنيا قامته..
– ضع يديك أعلى رأسك.. وتقدم أمام السيارة.
فعل هشام كل ما أُمر به.. وما إن صار أمام السيارة حتى قام بحركة مفاجئة وأخرج قارورة خضراء صغيرة من جيب سترته، ووضعها أمام أنف الجندي صائحا:
– إن قُمتُ بأدنى حركة سأرشّها في وجهك وحوالي المكان فلا تستطيعون الإفلات أبدا. أعلم أن أمري افتُضح. ولا أبالي بعد الآن، فلم يعد لي من شيء أخسره.. ارم البندقية من يدك حالا !
تصلّب الجندي مكانه للحظات.. ثم أخفض البندقية ببطء، وتردّد لحظة قبل أن يرميها، وعيناه متسعتان من الرعب.
ركل هشام البندقية بعيدا، ولاحظت عيناه أن نوافذ قد فُتحت، وأبواب فُرجت، لتُطلّ منها عشرات الوجوه الفضولية..
استطرد كلامه بصوت مخيف:
– لقد كنتُ في الصين فعلا، وأتيت منها بطريقة ملتوية حسبتُ أنكم لن تكشفوها أبدا.. لكنكم أثبتم براعتكم حقا، وأودّ لو أصفّق لولا أن يدي مشغولة الآن..
نحن فريق مكون من أغلب دول الأرض، مهمتنا نشر هذا الوباء لأسباب يطول شرحها.. لا تنظر لي باحتقار هكذا، أعلم أنك ستموت الآن بطلا وأموت أنا خائنا. ولكن.. هل كنتَ لتقاوم الإغراء الذي عُرض عليّ ؟.. هل يقدر على مقاومته أي بشري على الأرض ؟ أشكّ في ذلك..
تبا.. هاهم أصحابك قد قدموا. أتدري شيئا ؟ أحب أن أبوح بكل شيء تحت هذا المطر الجميل قبل أن أموت.. يا لها من لحظات شاعرية، ليت الكاميرات تصورني الآن.. لكن كعادة اللحظات الصادقة في هذه الدنيا.. لا تكتمل. أليس كذلك ؟
لطالما رأيتُ البشر يبالغون في كل شيء.. في الأفلام ، وفي إدماناتهم السخيفة وصراعاتهم المكررة.. ماذا علينا يا أخي لو نقصنا عددنا قليلا.. ها ؟ ماذا لو ؟…
ودوّت طلقة عالية أفزعت الطيور فوق السطوح..
وسكتَ المتكلّم..
وأفلتت القنينة من يده..
و.. استقرت في كف الجندي الذي قفز بأعجوبة ليلتقطها !
رفعت خالد
03-2020
إنه زمن (الكورونا)..
لم يكن يتصور أن يعيش مثل هذه الأيام العصيبة.. هو الذي كان يصف أفلام هوليود بالمبالغة في الخيال، والإمعان في التلفيق المُحال. وقد لطالما كان يُشاهد تلكم التمثيليات وهو يبتسم كأنما يقول: (لا يكاد يُصدّق.. لكن الفكرة لا بأس بها).
كان يظن أن هذه الطواعين لا تكون في زمننا، على الرغم من حدوث ما يُماثلها في الأزمان الغابرة ، فقد كان يتصّور – كما الكثير – أن العلم بلغ شأوا عاليا من الدقة والنجاعة حتى لا يكاد شيء يهزمه، فصار يثق بكل ما يُقال له (بحث علمي) أو(دراسة علمية موثوقة) ثقة عمياء لا تتزحزح.. كأن فيها شيئا من التقديس !
والآن دهم العالمَ هذا الفيروسُ الغامض مع مطلع العام الجديد..
* * *
– نعم سيدي.. هاهما.
ألصق هشام تصريح الخروج وبطاقته الوطنية بنافذة السيارة من الداخل. فمدّ الشُّرَطي المكمّم بالخارج عنقه ليقرأ الاستمارة، وحوّل بصره لبطاقة التعريف ليتأكد من الهوية.. ثم لم يلبث حتى استقام مرة أخرى، وأنزل الكمّامة عن فمه ليقول:
– يمكنك سيدّي الذهاب الآن للتبضّع.. وأكرر: عليك ألا تبتعد عن هذه المنطقة، ودكاكينها. ولا تتأخر، فساعة الحظر اقتربت..
شكر هشام للشرطي، وزفر وهو يدوس دوّاسة البنزين مبتعدا..
لطالما احترم رجال الأمن هؤلاء بالرغم من سوء سُمعة بعض المنتسبين لهم كما هي العادة في كل طائفة من البشر.. لكنهم في الأزمات رجال يعوّل عليهم حقا. لا بل إن الغرب يتعلّم منهم كيف تكون مجابهة الأخطار والإرهاب المنظّم.
تلهّى هشام – وألهانا معه – بهذه الخواطر الوطنية وهو يجوب بعض الشوارع التي بدت خالية على عروشها.. أغلب الدكاكين مغلقة، فليس كل أحد يُفضّل المال على السلامة كما يبدو..
حسن هاهوا ذا دكان صغير..
* * *
– السلام عليكم
– وعليكم السلام ورحمة الله.. نعم سيدي.
– أحتاج شيئا من المنظفات ومناديل الورق و..
توقف هشام ليتذكر ما أخبرته زوجه..
– أرجو أن تُسرع يا سيدي، فأنا على وشك إغلاق الدكان.
– أأ.. نعم، نعم. سأحتاج أيضا لبعض المعجنات والخل.. والملح. هذا كل شيء.
أسرع البائع (الأمازيغي) النحيف لجلب ما طلب هشام في مزيج من السرعة ونفاذ الصبر.. كل الباعة هنا أمازيغيون نحيفون لسبب غامض !
ثم دار أخيرا محملا بالأكياس الورقية عائدا إلى سيارته..
شغّل المذياع ما إن أوصد باب السيارة، وبدأت قطرات من المطر تنقر زجاج نافذته وهو يلتهم الطريق بهدوء. يتملّى بأشباح المنازل الهائمة تحت هذا الدوش الصباحي الدافئ.. يا سلام !
أطلق زفرة ارتياح بسبب هذا التغيّر اللطيف في الجو، ثم إنه لم يكد ينهيها حتى دوّى الصّوت المرعب من حيث لا يدري !
أهذا حقا صوتُ نذير الحرب المشهور ؟.. أوَيوجد في مدينته الصغيرة أيضا مثل هذه الأبواق ؟
تلفّت بهلع يمنة ويسرة علّه يعثر على مصدر الصوت، أو سبب إطلاقه..
لا شيء. فقط طيور ترفرف فارّة من على الأغصان وحدانا وزرافات..
ليته يستطيع سؤال أحدها !
* * *
– سيدي.. اسمح لي أن أسألك من فضلك !
قالها هشام من خلال نصف نافذة سيارته المفتوحة، لدركي يركض بسرعة في الشارع مرتديا كمامته التي تُشبه منقار البطة..
– سيدي..
لم يعره الدركي انتباها.. بل زاد من سرعة ركضه بشكل غريب !
وجد هشام نفسه في حيرة وارتباك شديدين.. ماذا حدث ؟ ألسنا في حجر صحي أصلا، فماذا استجدّ يا ترى ؟.. لماذا هذا الإنذار ؟
ارتمت أمام عينيه فجأة سلسلة مدببّة لتسدّ عليه الطريق.. فأطلقت عجلات السيارة صريرا يصمّ الآذان قبل أن تتوقف على بعد سنتمترات من أسنان السلسلة التي تشبه أسنان القرش !
صوت هدير مروحيات، وسرينة إسعاف قادمة من بعيد..
ماهذا الـ.. ؟
* * *
– دكتور هشام السارح.. توقّف مكانك، لا يحقّ لك التجوّل بعد الآن !
كان مصدر الصوت من خلفه، ولماّ نظر إلى المرآة فوقه وجد فيها جنديا يحمل مكبر صوت وقد ترجل من مدرّعة حربية، وبدأ يخطو باتجاه السيارة بحذر..
أمسك هشام بطاقته وتصريح الخروج بحركة آلية.. وأنزل زجاج السيارة قليلا. وانتظر حتى يصل إليه الجندي..
– لقد أدليت بأوراقي عند الخروج يا سيدي..
لم يجبه الجندي.. فقد كان منخرطا في كلام متقطع غير مفهوم من خلال جهازه اللاسلكي، وعينه النسرية ترقب هشام لا تفارقه ..
– دكتور هشام..
– نعم أنا هو.. ما الذي يجري ؟
– ليس من حقك التجوّل بعد الآن.. هذه أوامر عليا.
– كيف ؟..
– ضع كل ما في يدك وترجل من السيارة بهدوء..
– لكن..
– نفّذ ما أقوله بالحرف.. هيا !
* * *
“لا يكاد يُصدّق.. لكن الفكرة لا بأس بها! “
* * *
– حسن.. سأفعل، سأفعل.
خرج هشام من السيارة بتردد، محنيا قامته..
– ضع يديك أعلى رأسك.. وتقدم أمام السيارة.
فعل هشام كل ما أُمر به.. وما إن صار أمام السيارة حتى قام بحركة مفاجئة وأخرج قارورة خضراء صغيرة من جيب سترته، ووضعها أمام أنف الجندي صائحا:
– إن قُمتُ بأدنى حركة سأرشّها في وجهك وحوالي المكان فلا تستطيعون الإفلات أبدا. أعلم أن أمري افتُضح. ولا أبالي بعد الآن، فلم يعد لي من شيء أخسره.. ارم البندقية من يدك حالا !
تصلّب الجندي مكانه للحظات.. ثم أخفض البندقية ببطء، وتردّد لحظة قبل أن يرميها، وعيناه متسعتان من الرعب.
ركل هشام البندقية بعيدا، ولاحظت عيناه أن نوافذ قد فُتحت، وأبواب فُرجت، لتُطلّ منها عشرات الوجوه الفضولية..
استطرد كلامه بصوت مخيف:
– لقد كنتُ في الصين فعلا، وأتيت منها بطريقة ملتوية حسبتُ أنكم لن تكشفوها أبدا.. لكنكم أثبتم براعتكم حقا، وأودّ لو أصفّق لولا أن يدي مشغولة الآن..
نحن فريق مكون من أغلب دول الأرض، مهمتنا نشر هذا الوباء لأسباب يطول شرحها.. لا تنظر لي باحتقار هكذا، أعلم أنك ستموت الآن بطلا وأموت أنا خائنا. ولكن.. هل كنتَ لتقاوم الإغراء الذي عُرض عليّ ؟.. هل يقدر على مقاومته أي بشري على الأرض ؟ أشكّ في ذلك..
تبا.. هاهم أصحابك قد قدموا. أتدري شيئا ؟ أحب أن أبوح بكل شيء تحت هذا المطر الجميل قبل أن أموت.. يا لها من لحظات شاعرية، ليت الكاميرات تصورني الآن.. لكن كعادة اللحظات الصادقة في هذه الدنيا.. لا تكتمل. أليس كذلك ؟
لطالما رأيتُ البشر يبالغون في كل شيء.. في الأفلام ، وفي إدماناتهم السخيفة وصراعاتهم المكررة.. ماذا علينا يا أخي لو نقصنا عددنا قليلا.. ها ؟ ماذا لو ؟…
ودوّت طلقة عالية أفزعت الطيور فوق السطوح..
وسكتَ المتكلّم..
وأفلتت القنينة من يده..
و.. استقرت في كف الجندي الذي قفز بأعجوبة ليلتقطها !
رفعت خالد
03-2020