المرتدّ - (رفعت خالد)
مرسل: 10 مايو 2021, 12:07
– “ميغسي بيان”!
انتبه مهدي عند سماع هذه العبارة، فكفّ عن القراءة ورفع عينيه بامتعاض صوب الشاب الأنيق الذي تلفّظ بها وهو يمدّ للنادل حسابه..
ألا ما أشدّ مقته لهؤلاء الممسوخين لغويا، كيف لا يشعرون بلسعة الضمير وهم يخاطبون بني جلدتهم بغير لغتهم ؟ ولقد طالما جادل وكتب في ذلك المقالات ونشر التغريدات، ولكن لا حياة لمن تغرّد !
أيكون ذلك لأنه كثير القراءة والكتابة، ولذلك إنما هو مُدرك (أكثر من اللازم) للمسألة اللغوية ؟
رشف من كأسه الآن بتوتر، ووضع الفنجان بعنف مبالغ فيه على السطح الزجاجي للطاولة، حتى صدرت جراء ذلك فرقعة دارت لها الأعناق لثانية أو اثنتين قبل أن تعود لشأنها غير مبالية..
نظر في معصمه مليا.. لم يبق الكثير على الموعد الذي ضربه مع صديقه إسماعيل، وكان حضر قبل ساعة من الموعد ليقرأ ما تيسّر، فهو لا يُطيق البقاء جالسا في المقهى كالخُشُب المسنّدة، دون إتيان شيء نافع.. ولا يدري كيف يطيق ذلك الآخرون !
هذا الإصرار المتفاني على الجهل ومقاومة كل معرفة لم يفهمه يوما.. لا قراءة، لا كتابة، لا تعلّم، لا شيء. مثل الرجل ذي الشارب الكثيف الذي يراقبه الآن بوجه آلي من أقصى قاعة المقهى واضعا رجلا على رجل، كأنما يتحداه أن يفضل على ما هو عليه دون نشاط أطول مما يخطر على باله !
– السلام عليكم.. مهدي “سافا” ؟
انتفض من خواطره بغتة لدى وصول صديق طفولته إسماعيل بقامته الفارعة، ووجهه الحليق وعطره الذي يسبقه، كأنما ليمهدّ له الطريق !
– وعليكم السلام ورحمة الله.. أفزعتني يا أخي..
ضحكا معا، وتناول إسماعيل مقعدا بنشاط وصخب أيقظ مهدي تماما من استرخائه الكئيب..
– ما أخبارك يا سي مهدي ؟ “سافا” ؟ هل من “نوفو” ؟
* * *
شرد مهدي بخياله بعيدا وهو يسمع أنصاف الجمل المكررة التي تخرج من فم صديقه الباسم كالقذيفة.. ولقد استنتج بسهولة سبب حماسته الزائدة اليوم، فهو يوم صرف الرواتب، كما أنه كان يلمس حافظة نقوده من خلال جيبه المنتفخ مرارا دون أن ينتبه، ما يدلّ على أنه سحب غالبا مبلغا محترما من الصرّاف الآلي قبل قدومه للمقهى.. لقد قرأ مثل هذه الأمور كثيرا في الروايات البوليسية.
-.. إذن ؟ أين سرحت ؟ هل من (بولو) ؟ هل عثرت على عمل ؟
العمل.. اه العمل. كأن ذلك يعنيك حقا ! ألم تعدني مرارا أنك ستكلم فلانا، وستضع السيرة على مكتب علان ؟
– لا أبدو مختنقا بالأعمال كما ترى !
قهقه إسماعيل باستمتاع وقد راقت له الجملة، ثم مال على المائدة ليلتقط الكتاب السميك وهو يقول بنصف فضول:
– ما هذا (الليفر) ؟
لم يجب مهدي، وقد بدا على وجهه بعض الضيق.. والتفت يراقب ما حوله من دون سبب.
– رحلتي.. الفكرية. عبد الوهاب.. المس.. المسيري. من هذا (الإكغيفان) ؟
زفر مهدي، وقال بنفاذ صبر:
– تقصد من هذا (الكاتب) ؟.. حسن، إنه مفكر مصري، درس في أمريكا مدة، ودوّن في هذا الكتاب ملاحظات عميقة عن…
– إنه ضخم حقا.. واو !
انعقد لسان مهدي أمام برود صديقه الأنيق، الذي يبدو أنه لا يريد سوى ملء ما بقي له من وقت بكلام لا يعنيه تماما..
– أتدري (مون أمي)، أريد إخبارك بشيء، (جيسبيغ) ألا يُزعجك !
كم يكره هذه الطريقة البهلوانية في القفز على المواضيع..
– حسن.. لا بأس، تفضل أخبرني بما تشاء..
– أوكي.. مممم، كيف أقولها ؟ باختصار.. دع عنك هذه الكتب التي لا تغني من السمن ؟ ماذا يقولون ؟ لا تسمن الجوع ؟.. المهم، دعك من هذه الكتب، ومن هذه (الأغاب) إن أردت النجاح في حياتك.. أوكي ؟!
* * *
… ظلّ مهدي متسمّرا مكانه نصف ساعة بعد انصراف صديقه، ينظر في أفكاره المتوالدة على سطح الطاولة الذي بدا له الآن قاسيا وجارحا بشكل ما !
في عينيه نظرة من لا يعرف الصوّاب.. كلما ظنّ أنه كوّن الجواب المنطقي لوضعه في هذه الحياة، جاء من يبعثره بضربة خاطفة لا مبالية.. ذلك الجواب الجميل المرتب الذي يبنيه كل مرة من الكلمات التي يجدها في الكتب !
نعم، هو حسّاس وسريع التأثر.. لم يعد يرغب حتى في ردّ هذه التهمة عنه، وماذا ينفعه أن يردّها ؟ ماذا ينفع الإنكار ؟
وهاهوذا مرة أخرى وجها لوجه مع جدار الشك القبيح.. أيكون هو المخطئ حقا ؟ أبعد كل تلك التأملات والتحليلات ؟ بعد كل تلك الكتب ؟ أيكون طالب العلم والمعرفة هو المخطئ ؟ والمتمسك بلغته هو الأحمق ؟
أو ربما يكون “الساذج” هو الوصف الصحيح.. تبا ! هاهوذا المصحح اللغوي القابع بداخله وجد اقتراحا جديدا ليقوله !
– أستاذ !
أجفل مهدي بسرعة، وانطلق مجيبا بسرعة كأنما يعتذر عن أفكاره الغريبة:
– نعم ؟؟.. آسف.. أنا..
– إنها الثامنة، موعد الإغلاق كما تعلم.. إجراءات كورونا هذه لم..
– اه، طبعا.. طبعا.
ثم قام من فوره كالملسوع، وحشر يده في جيبه الخلفي بحركة آلية باحثا عن النقود، ليقع بصره على الكتاب الملقى على الطاولة، فتوقّف يحدّق فيه كما لو أنه يراه لأول مرة، وتحركت عيناه في حيرة شديدة.. قبل أن يرفع رأسه بحزم ويخرج الدراهم التي في جيبه. يعدّها عدّا، يدسّها كاملة في يد النادل الصبورة، وينصرف لا يلوي على شيء.
– لحظة يا أستاذ! لقد نسيت كتابك..
التفت مهدي نصف التفاتة، ونظر للنادل مبتسما بمرارة ثم قال ببساطة شديدة:
– لم تعد لي به حاجة.. “ميغسي”!
رفعت خالد
01-04-2021