وفاء -جويدة (مسابقة قصتك بقلمي)
مرسل: 16 نوفمبر 2022, 23:12
أحيانا، حين نرغب بالحديث عن شخص نقدره، ويكون من وجهة نظرنا بطلا من زاوية ما، فإن أجمل الكلمات قد لا تصفه، ولا تفيه حقه، وقد تقف عاجزة عن احتواء بعض من جوانبه، وإن كان أكثر الناس ندين لهم بالمحبة والتقدير، فلأننا خبرناهم وعرفناهم عن سابق احتكاك أو سابق خبر يقين، لذا نمجد ذكراهم ونخلدهم في ذواتنا، فأمهاتنا وآباؤنا وبعض من إخوتنا ومعلمونا كلهم أبطال من هذا المنطلق ...غير أنه من النادر اتخاذ صديق بطلا، والأندر منه أن يكون مقدمه من العالم الافتراضي.
قصتي مع وفاء بدأت كفتيل صغير، حين كانت تعلق بود على رواية لي، وشعرت من خلال متابعتها أنها شخص يجيد الاهتمام، وتحركه المآسي، ولم تكن تعني لي حينها أكثر من ذلك.
بدأت هذه الفتاة تلبس دور البطولة حين تواصلت معي برغبة منها ومبادرة مني. إلى هذا الحد، لم تكن سوى فضولية لطيفة، لكنه من الشجاعة بنظري التعبير عن الرغبة في التواصل من شخص ما، لا نعرف ردود فعله ولا نواياه ...
بوقت غير بعيد من تعارفنا السطحي وقع خلاف جاد بيني و بين إحدى الغاليات ، حرب نفسية نتجت عن ضغوط شتى، فجرت الوضع و مزقت الأوتار الحساسة ،و كادت تودي بعلاقة جميلة يعتز كل مخلوق بتكوينها، و يحزن لتمزقها و موتها بفعل الشيطان و النفس المعتدة ...و تطوعت وفاء لإصلاح ذات البين و مداواة الجرحين الغائرين ،بأسلوب لين ذكي، و باقتراح فكرة رهيبة ، مفاوضة إياي أن تنسحب من حياتينا فتكون الأضحية لأجل عودة المياه لمجاريها ، حين خيّل إليها أن دخولها كطرف ثالث بيني و بين صديقتي هو ما سبّب الخلاف و أفسد الود ، و إن لم يتطلب الأمر منّا غير اعتذار صغير إلا أن فكرة الانسحاب و الخروج من الثالوث الذي كان يروقنا جميعا ،جعلني أعيد النظر بقيمة هذه الفتاة الغريبة و عقليتها المتفردة.
وإلى هذا الحد، لم تكن وفاء بطلة بعد ...فلنسمها «الفتاة اللطيفة جدا" من النوع المفيد والمبهج تواجدها في حياة أي منا.
حين نقترب من أحدهم ونصر على التدقيق في أكثر تفاصيله تعقيدا، يكون شعوره إما مستحبا حين يقابل الفضول بمثله وإلا تحول الأمر إلى نفورو استهجان حين يكون ذلك من طرف وحيد، مقابلا بالعزوف والإنكار، لكن الأمور بيننا سارت على نحو هادئ ولطيف حد المتعة، حتى صرت أشعر شيئا ما أن وفاء تحولت من فتاة افتراضية إلى صديقة غالية كباقي الغوالي اللواتي أتمسك بهن كعنصر حيوي جدا، اذ يشرق يومي بهن واستمد قوتي منهن، غير أن الفرق يكمن في سرعة اعتلائها عرش قلبي مقارنة بهن.
قرأت لها قصة يوما، فبدأت ملامح البطولة تغشو وجهها شيئا فشيئا، حين تلمست ولع حفيدة بجدها الذي بلغ مداه، وقد رسمت بها تفاصيل جد غاية في الصلاح والطيبة والورع، فكيف عساها تحبه ولا تقتدي به وكيف تكون منه ولا تكون مثله؟ ومن منا يتعثر بالصالحين ويرغب عنهم؟ إلا من سفه نفسه.
ربما بالغت حينها في محبتها، ربما وددت لو حللت محلها، وكان لي جد مثله، أنعم بدفء حضنه وعطف قلبه، فيكون مثلي الأعلى وأكون حفيدته المحظية ... وددت حقا لو كان لي نصيب من هذا، لا سيما أنني نشأت يتيمة الأب وقد فارق أجدادي كلهم الحياة قبل أن أولد بسنين.
ان الوفاء للجد حيا وميتا، هو أول ما جعل من وفاء شخصا مميزا جدا بالنسبة لي، وكان يبهرني ويحزنني للغاية في ذات الحين، لما راحت تفتش عن ملامحه في وجه صغيرها أوس، وكأنما تحلم أن يكون خليفته، وكأنما تأمل أن يولد لها جد من صميم الابن.
ثم قرأت قصة أخرى لبطلتي الصغيرة، تحكي عن تفاصيل حياتها العجيبة، وما شدني فيها أمران: صراحتها البالغة حد الجرأة، وإقبالها على الحياة دون خوف أو تردد، إذ في مغامرة عجيبة، تسافر وفاء رفقة أمها إلى بلد غريب بعيد عن كل جذورها ومعارفها، لتخوض تجربة فريدة تكلل في النهاية بالنجاح، وكأنها السندباد يدخل مدنا ويخوض مغامرات، وينجو من مصائب، ويفوز دائما.
كل هذا في كفة، أما قصة بطولتها العظيمة فتبدأ حين قررت العودة للعمل بعد انقطاع طويل، وما كانت لتقبل على أي وظيفة، ولكنها قبلت بتلك لقربها من المنزل حيث يمكنها الاطمئنان على صغيرها أوس الذي عهدت به إلى جدته للرعاية.
تخيلوا معي وفاء، وهي تخطو أولى خطواتها في مركز تحليل الدم، رافعة رأسها شامخا واثقة كل الثقة أنها ستستقبل أياما سعيدة، وستصنع عالما جديدا جميلا، وغدا مثمرا متوجا بالنجاحات والتفوق، تعين فيه العجزة والمحتاجين والمرضى والضعفاء والمقعدين، وتقاسم أجر كل ذلك -بكرم دعواتهم-جدها الحنون وأمها الطيبة.
لكنها تصطدم بعالم غير الذي تخيلته، ولا مثل الذي ودعته قبل الزواج، حين قرأت بعيون زملائها شيئا من الانزعاج والنفور منذ لحظاتها الأولى.
- لا بأس، لعلهم يشعرون بالغرابة إزائي لكوني جديدة...منت وفاء نفسها الأماني بغد أفضل يجعل من عشرتها لعشرائها لطيفة يمكن بلعها ولو على مضض وغضت البصر عن انطباعها الأول وحدسها السادس الذي لا يخيب في العادة.
"ابتسام" رئيسة الموظفين، كانت أكثرهم بؤسا وشرا، وكأنها خشيت أن تحل وفاء محلها بقلب المديرة أو مركزها، فكانت نظراتها المكشوفة من أول تواصل تنم عن كثير من الشر والخبث الذي لا مبرر له في الواقع سوى تصاغر النفس ضعف الحيلة وقلة العقل.
راحت الفتاة تراقب مهارة وفاء وتنكرها وكأنها تصر على ابقائها تحت المراقبة لتقزيم شأنها بينما لم تكن تضاهيها مهارة، فكان أن علقت على وفاء في شأن ما مشيرة الى الحقن بألوانها ولم تفوت وفاء فرصتها بصفعها مجازا إذ علمتها أسماء الحقن كلها والتي فات ابتسام تعلمها، ولأنها لم تكن من الملائكة، لم يرق لها أن يشار الى خطئها بالبنان، من قبل المتربصة الجديدة، فأسرّتها في نفسها وكظمت غيضها إلى حين.
أيام أخر، وترتكب ابتسام خطأ فادحا، بإغفال تسجيل اسم أحد المرضى على الحاسوب، وتلصق التهمة بالموظفة الجديدة متوقعة أنها ستلزم الصمت، خوفا من فقد منصبها، وببرودة أعصاب تدافع بطلتنا عن نفسها، وتكشف الغطاء عن الحقيقة ولا تبالي بالنتائج.
- ستكونين تحت عيني وفاء ...لن أفوت لك إذلالي أمام المديرة ...قالت ابتسام يقينا بقرارتها إذ انقدح الشرر جليا من عينيها.
مرت أيام أخر، وتلاحظ بطلتنا -التي لا تفوت شيئا يمر أمام عينيها الا وحللته كما تحلل دماء مرضاها-دخول شاب غريب عن المركز يرافق مريضا ...يوصله إلى ابتسام ...انه عميل بالتأكيد ... راقبت على الحاسوب معلومات المريض لتكتشف أنه دفع مبلغا أكبر من المطلوب لخدمته.
- تبا، يأخذون مبالغ إضافية من المرضى ليدفعوها للعملاء؟ لن أسكت عن هذا أبدا ...قالت وفاء، والدماء تغلي في عروقها وتتصبب عرقا حتى ضاقت بها الكمامة التي وضعتها غصبا لظروف كورونا القاهرة.
خطت بثبات نحو مكتب المديرة، وقدمت استقالتها بثبات عجيب، وعظمة مبهرة، هزت أركان المديرة وتبعثرت أفكارها لوجود شخص في هذا الزمن، يستقيل في فترة تربص، وفي فترة تتوق كل نفس للعمل للظروف الاقتصادية المزرية التي شملت العالم بأسره.
- لقد صدمتني وفاء، بالكاد بدأت العمل معنا، ألا تروقك الأجواء، أم تشعرين بالتعب، أم أن خلافك مع ابتسام هو ما دعاك للاستقالة بهذه السرعة؟
- كلا سيدتي، لدي أسباب أخرى بودي لو أعفى من ذكرها، أما ابتسام فإنها لا تهمني في شيء، وعن التعب فلا أشكو منه حقا، لأنه سبق لي العمل في مختبر أكبر.
- اعذريني يا وفاء، لن أعفيك من ذلك، ولن أقبل استقالتك، وصدقيني لقد أحببتك منذ اللحظة التي أجريت فيها المقابلة، أتصدقين أن تاريخ مولدنا واحد؟ لا بد أنها إشارة ربانية لكوننا سنتفق لتوافق تاريخ مولدنا.
- حسن، إن كنت تصرين، فإنه لا يروق لي التعامل مع العملاء وأن يحصلوا على أجرتهم من جيوب المرضى، وقد رأيت هذا بأم عيني منذ لحظات، وأنا وإن احتجت للعمل، فإنني أبدا لن أسمح للمال الحرام أن يلج بيتي ولا أن أمسه بيدي.
- مال حرام؟ من أين جئت بهذه الفكرة؟ كل المختبرات هنا تعمل بهذه الطريقة، حتى المختبر الذي كنت أعمل فيه قبل انشاء مختبري كان يتعامل بذات المنهاج، هكذا تعلمنا وبذا سنعمل.
- المختبر الذي كنت أعمل فيه لم يسمح بهكذا تعاملات أبدا، وصدقيني لم يكن يخلو من المرضى ولا من بركات دعواتهم ولم نحتج يوما لاستخلاص المال من جيوب أحدهم ومن عيونهم.
- سأعيد التفكير بالأمر عزيزتي، وأعدك ألا يتكرر هذا بعد اليوم، لكن عديني ألا تتخلي عنا.
- حسن، سأبقى على هذا الشرط.
كان الأمر أشبه بالحلم، أن تستجيب المديرة لقرار المتربصة وبهذه السهولة ومن أول نقاش، لا بد أن بالأمر خدعة، ربما خشيت أن تذيع وفاء سرها للعلن، ربما استحيت بلحظة ضعف أمام طهر وفاء وأمانتها ...لكنها وعدت بالتراجع عن مبدأ ربحي كانت قد ألفته دونما جدل ودونما تردد.
ولأيام أخر، سارت الأمور على نحو عجيب سلس بين وفاء وبقية الزملاء، حتى أن ابتسام حاولت ملاطفة وفاء وتوددت إليها بتصنع، وصار الجميع يدعوها لتناول الطعام برفقتهم على غير المعتاد، ولكن وفاء ظلت على عهدها من التحفظ والالتزام فبعيون ابتسام شيء يؤكد أنه لا يؤتمن جانبها ولا يوثق بودها...وكأنها تتبع تعاليم فوقية صارمة بضرورة حسن التعامل فلا تجيد الدور الجبري إلا قليلا.
وأيام أخر، يصل العميل السري ذاته إلى المركز يتأبط عجوزا منكسرة الخاطر ترتدي أسمالا بالية، ورغم ذلك يؤخذ من جيبها مبلغا ماليا دون أن تدري ليدس بحفظ في يد العميل.
منظر المرأة العجوز مزق قلب بطلتنا فوق ما يمكنها ويمكننا تخيله، فمثلها يفترض أن تداوى بالمجان، ومثلها يفترض أن ينتقل الطاقم الطبي كله إليها، رحمة وواجبا، فكيف تسحب هكذا كالذبيح، وتسلب أموالها دون أن تدري؟
فاضت عينا وفاء من منظر المرأة العجوز، ومن محاولة استغبائها من قبل المديرة، لحظة أوهمتها أنها ندمت على أكل أموال الناس بالباطل، فجاءتها مهرولة تخفي غضبها تهذبا وتطلب قبول استقالتها مجددا، فكان أن لقيت وجها غير الذي كان ...وجه جاف بلا تعابير، وقبلت استقالة وفاء على وجه السرعة وكأنها جرثومة ينبغي التخلص منها مخافة انتشار فكرة تحري المال الحلال بين موظفيها.
- نأسف على خسارتك يا وفاء ولكن، بما أنك تصرين على مغادرتنا فنحن لن نصر على بقائك، ستصلك أجرتك نهاية هذا الشهر.
- تعرفين أن المال هو آخر همي، فأنا لم أسألك عن قيمة أجرتي من يوم المقابلة إلى حد الساعة إن كنت تذكرين، وما كنت أنوي العمل في مركز غير الذي عملت فيه سابقا، ولكن قرب هذا المركز من بيتي حفزني للتجربة، أما والظروف هذه، فبيتي أولى بي، وإن احتجت لأي مساعدة مستقبلا فلن أخيب رجاءك إكراما للمرضى المتعبين ورحمة بهم.
ساد صمت غريب سمعت فيه أنفاس كلتا المرأتين بدقة وانسحبت وفاء باطمئنان وثقة أمام ناظري المديرة التي تمنت لو أنها رأت عيون القهر والإذلال بدل الفخر والسكينة
كانت نظرات ابتسام مستفزة للغاية، وكأنها طردت وفاء من عقر بيتها، ولكن بطلتنا التي صبرت على وقاحتها كثيرا، قررت أنه حان الوقت لمكافأتها بما تستحق، فبعد أن ودعت كل الزملاء بسعة صدر ومودة، همست في أذن ابتسام: "غير تلك الكاميرات المعلقة فوق رأسك وتخافين منها، هناك كاميرا أخرى فوقنا، أمثالك ينسونها...وداعا بلا شرف التعرف عليك".
غادرت وفاء المكان، رفقة تصفيقي الافتراضي خلف الحاسوب، لتلقى قرينها ينتظرها بابتسامة عريضة ويخبرها أنه فخور بها.
وفجّر حينها الفتيل الصغير قلبي محبة وتقديرا.
كان يا مكان في حديث الزمان، فتاة لم تختر لنفسها اسما، لكنها قررت أن يكون اسمها لها عنوانا
مهداة بكامل محبتي لوفاء المالكي
قصتي مع وفاء بدأت كفتيل صغير، حين كانت تعلق بود على رواية لي، وشعرت من خلال متابعتها أنها شخص يجيد الاهتمام، وتحركه المآسي، ولم تكن تعني لي حينها أكثر من ذلك.
بدأت هذه الفتاة تلبس دور البطولة حين تواصلت معي برغبة منها ومبادرة مني. إلى هذا الحد، لم تكن سوى فضولية لطيفة، لكنه من الشجاعة بنظري التعبير عن الرغبة في التواصل من شخص ما، لا نعرف ردود فعله ولا نواياه ...
بوقت غير بعيد من تعارفنا السطحي وقع خلاف جاد بيني و بين إحدى الغاليات ، حرب نفسية نتجت عن ضغوط شتى، فجرت الوضع و مزقت الأوتار الحساسة ،و كادت تودي بعلاقة جميلة يعتز كل مخلوق بتكوينها، و يحزن لتمزقها و موتها بفعل الشيطان و النفس المعتدة ...و تطوعت وفاء لإصلاح ذات البين و مداواة الجرحين الغائرين ،بأسلوب لين ذكي، و باقتراح فكرة رهيبة ، مفاوضة إياي أن تنسحب من حياتينا فتكون الأضحية لأجل عودة المياه لمجاريها ، حين خيّل إليها أن دخولها كطرف ثالث بيني و بين صديقتي هو ما سبّب الخلاف و أفسد الود ، و إن لم يتطلب الأمر منّا غير اعتذار صغير إلا أن فكرة الانسحاب و الخروج من الثالوث الذي كان يروقنا جميعا ،جعلني أعيد النظر بقيمة هذه الفتاة الغريبة و عقليتها المتفردة.
وإلى هذا الحد، لم تكن وفاء بطلة بعد ...فلنسمها «الفتاة اللطيفة جدا" من النوع المفيد والمبهج تواجدها في حياة أي منا.
حين نقترب من أحدهم ونصر على التدقيق في أكثر تفاصيله تعقيدا، يكون شعوره إما مستحبا حين يقابل الفضول بمثله وإلا تحول الأمر إلى نفورو استهجان حين يكون ذلك من طرف وحيد، مقابلا بالعزوف والإنكار، لكن الأمور بيننا سارت على نحو هادئ ولطيف حد المتعة، حتى صرت أشعر شيئا ما أن وفاء تحولت من فتاة افتراضية إلى صديقة غالية كباقي الغوالي اللواتي أتمسك بهن كعنصر حيوي جدا، اذ يشرق يومي بهن واستمد قوتي منهن، غير أن الفرق يكمن في سرعة اعتلائها عرش قلبي مقارنة بهن.
قرأت لها قصة يوما، فبدأت ملامح البطولة تغشو وجهها شيئا فشيئا، حين تلمست ولع حفيدة بجدها الذي بلغ مداه، وقد رسمت بها تفاصيل جد غاية في الصلاح والطيبة والورع، فكيف عساها تحبه ولا تقتدي به وكيف تكون منه ولا تكون مثله؟ ومن منا يتعثر بالصالحين ويرغب عنهم؟ إلا من سفه نفسه.
ربما بالغت حينها في محبتها، ربما وددت لو حللت محلها، وكان لي جد مثله، أنعم بدفء حضنه وعطف قلبه، فيكون مثلي الأعلى وأكون حفيدته المحظية ... وددت حقا لو كان لي نصيب من هذا، لا سيما أنني نشأت يتيمة الأب وقد فارق أجدادي كلهم الحياة قبل أن أولد بسنين.
ان الوفاء للجد حيا وميتا، هو أول ما جعل من وفاء شخصا مميزا جدا بالنسبة لي، وكان يبهرني ويحزنني للغاية في ذات الحين، لما راحت تفتش عن ملامحه في وجه صغيرها أوس، وكأنما تحلم أن يكون خليفته، وكأنما تأمل أن يولد لها جد من صميم الابن.
ثم قرأت قصة أخرى لبطلتي الصغيرة، تحكي عن تفاصيل حياتها العجيبة، وما شدني فيها أمران: صراحتها البالغة حد الجرأة، وإقبالها على الحياة دون خوف أو تردد، إذ في مغامرة عجيبة، تسافر وفاء رفقة أمها إلى بلد غريب بعيد عن كل جذورها ومعارفها، لتخوض تجربة فريدة تكلل في النهاية بالنجاح، وكأنها السندباد يدخل مدنا ويخوض مغامرات، وينجو من مصائب، ويفوز دائما.
كل هذا في كفة، أما قصة بطولتها العظيمة فتبدأ حين قررت العودة للعمل بعد انقطاع طويل، وما كانت لتقبل على أي وظيفة، ولكنها قبلت بتلك لقربها من المنزل حيث يمكنها الاطمئنان على صغيرها أوس الذي عهدت به إلى جدته للرعاية.
تخيلوا معي وفاء، وهي تخطو أولى خطواتها في مركز تحليل الدم، رافعة رأسها شامخا واثقة كل الثقة أنها ستستقبل أياما سعيدة، وستصنع عالما جديدا جميلا، وغدا مثمرا متوجا بالنجاحات والتفوق، تعين فيه العجزة والمحتاجين والمرضى والضعفاء والمقعدين، وتقاسم أجر كل ذلك -بكرم دعواتهم-جدها الحنون وأمها الطيبة.
لكنها تصطدم بعالم غير الذي تخيلته، ولا مثل الذي ودعته قبل الزواج، حين قرأت بعيون زملائها شيئا من الانزعاج والنفور منذ لحظاتها الأولى.
- لا بأس، لعلهم يشعرون بالغرابة إزائي لكوني جديدة...منت وفاء نفسها الأماني بغد أفضل يجعل من عشرتها لعشرائها لطيفة يمكن بلعها ولو على مضض وغضت البصر عن انطباعها الأول وحدسها السادس الذي لا يخيب في العادة.
"ابتسام" رئيسة الموظفين، كانت أكثرهم بؤسا وشرا، وكأنها خشيت أن تحل وفاء محلها بقلب المديرة أو مركزها، فكانت نظراتها المكشوفة من أول تواصل تنم عن كثير من الشر والخبث الذي لا مبرر له في الواقع سوى تصاغر النفس ضعف الحيلة وقلة العقل.
راحت الفتاة تراقب مهارة وفاء وتنكرها وكأنها تصر على ابقائها تحت المراقبة لتقزيم شأنها بينما لم تكن تضاهيها مهارة، فكان أن علقت على وفاء في شأن ما مشيرة الى الحقن بألوانها ولم تفوت وفاء فرصتها بصفعها مجازا إذ علمتها أسماء الحقن كلها والتي فات ابتسام تعلمها، ولأنها لم تكن من الملائكة، لم يرق لها أن يشار الى خطئها بالبنان، من قبل المتربصة الجديدة، فأسرّتها في نفسها وكظمت غيضها إلى حين.
أيام أخر، وترتكب ابتسام خطأ فادحا، بإغفال تسجيل اسم أحد المرضى على الحاسوب، وتلصق التهمة بالموظفة الجديدة متوقعة أنها ستلزم الصمت، خوفا من فقد منصبها، وببرودة أعصاب تدافع بطلتنا عن نفسها، وتكشف الغطاء عن الحقيقة ولا تبالي بالنتائج.
- ستكونين تحت عيني وفاء ...لن أفوت لك إذلالي أمام المديرة ...قالت ابتسام يقينا بقرارتها إذ انقدح الشرر جليا من عينيها.
مرت أيام أخر، وتلاحظ بطلتنا -التي لا تفوت شيئا يمر أمام عينيها الا وحللته كما تحلل دماء مرضاها-دخول شاب غريب عن المركز يرافق مريضا ...يوصله إلى ابتسام ...انه عميل بالتأكيد ... راقبت على الحاسوب معلومات المريض لتكتشف أنه دفع مبلغا أكبر من المطلوب لخدمته.
- تبا، يأخذون مبالغ إضافية من المرضى ليدفعوها للعملاء؟ لن أسكت عن هذا أبدا ...قالت وفاء، والدماء تغلي في عروقها وتتصبب عرقا حتى ضاقت بها الكمامة التي وضعتها غصبا لظروف كورونا القاهرة.
خطت بثبات نحو مكتب المديرة، وقدمت استقالتها بثبات عجيب، وعظمة مبهرة، هزت أركان المديرة وتبعثرت أفكارها لوجود شخص في هذا الزمن، يستقيل في فترة تربص، وفي فترة تتوق كل نفس للعمل للظروف الاقتصادية المزرية التي شملت العالم بأسره.
- لقد صدمتني وفاء، بالكاد بدأت العمل معنا، ألا تروقك الأجواء، أم تشعرين بالتعب، أم أن خلافك مع ابتسام هو ما دعاك للاستقالة بهذه السرعة؟
- كلا سيدتي، لدي أسباب أخرى بودي لو أعفى من ذكرها، أما ابتسام فإنها لا تهمني في شيء، وعن التعب فلا أشكو منه حقا، لأنه سبق لي العمل في مختبر أكبر.
- اعذريني يا وفاء، لن أعفيك من ذلك، ولن أقبل استقالتك، وصدقيني لقد أحببتك منذ اللحظة التي أجريت فيها المقابلة، أتصدقين أن تاريخ مولدنا واحد؟ لا بد أنها إشارة ربانية لكوننا سنتفق لتوافق تاريخ مولدنا.
- حسن، إن كنت تصرين، فإنه لا يروق لي التعامل مع العملاء وأن يحصلوا على أجرتهم من جيوب المرضى، وقد رأيت هذا بأم عيني منذ لحظات، وأنا وإن احتجت للعمل، فإنني أبدا لن أسمح للمال الحرام أن يلج بيتي ولا أن أمسه بيدي.
- مال حرام؟ من أين جئت بهذه الفكرة؟ كل المختبرات هنا تعمل بهذه الطريقة، حتى المختبر الذي كنت أعمل فيه قبل انشاء مختبري كان يتعامل بذات المنهاج، هكذا تعلمنا وبذا سنعمل.
- المختبر الذي كنت أعمل فيه لم يسمح بهكذا تعاملات أبدا، وصدقيني لم يكن يخلو من المرضى ولا من بركات دعواتهم ولم نحتج يوما لاستخلاص المال من جيوب أحدهم ومن عيونهم.
- سأعيد التفكير بالأمر عزيزتي، وأعدك ألا يتكرر هذا بعد اليوم، لكن عديني ألا تتخلي عنا.
- حسن، سأبقى على هذا الشرط.
كان الأمر أشبه بالحلم، أن تستجيب المديرة لقرار المتربصة وبهذه السهولة ومن أول نقاش، لا بد أن بالأمر خدعة، ربما خشيت أن تذيع وفاء سرها للعلن، ربما استحيت بلحظة ضعف أمام طهر وفاء وأمانتها ...لكنها وعدت بالتراجع عن مبدأ ربحي كانت قد ألفته دونما جدل ودونما تردد.
ولأيام أخر، سارت الأمور على نحو عجيب سلس بين وفاء وبقية الزملاء، حتى أن ابتسام حاولت ملاطفة وفاء وتوددت إليها بتصنع، وصار الجميع يدعوها لتناول الطعام برفقتهم على غير المعتاد، ولكن وفاء ظلت على عهدها من التحفظ والالتزام فبعيون ابتسام شيء يؤكد أنه لا يؤتمن جانبها ولا يوثق بودها...وكأنها تتبع تعاليم فوقية صارمة بضرورة حسن التعامل فلا تجيد الدور الجبري إلا قليلا.
وأيام أخر، يصل العميل السري ذاته إلى المركز يتأبط عجوزا منكسرة الخاطر ترتدي أسمالا بالية، ورغم ذلك يؤخذ من جيبها مبلغا ماليا دون أن تدري ليدس بحفظ في يد العميل.
منظر المرأة العجوز مزق قلب بطلتنا فوق ما يمكنها ويمكننا تخيله، فمثلها يفترض أن تداوى بالمجان، ومثلها يفترض أن ينتقل الطاقم الطبي كله إليها، رحمة وواجبا، فكيف تسحب هكذا كالذبيح، وتسلب أموالها دون أن تدري؟
فاضت عينا وفاء من منظر المرأة العجوز، ومن محاولة استغبائها من قبل المديرة، لحظة أوهمتها أنها ندمت على أكل أموال الناس بالباطل، فجاءتها مهرولة تخفي غضبها تهذبا وتطلب قبول استقالتها مجددا، فكان أن لقيت وجها غير الذي كان ...وجه جاف بلا تعابير، وقبلت استقالة وفاء على وجه السرعة وكأنها جرثومة ينبغي التخلص منها مخافة انتشار فكرة تحري المال الحلال بين موظفيها.
- نأسف على خسارتك يا وفاء ولكن، بما أنك تصرين على مغادرتنا فنحن لن نصر على بقائك، ستصلك أجرتك نهاية هذا الشهر.
- تعرفين أن المال هو آخر همي، فأنا لم أسألك عن قيمة أجرتي من يوم المقابلة إلى حد الساعة إن كنت تذكرين، وما كنت أنوي العمل في مركز غير الذي عملت فيه سابقا، ولكن قرب هذا المركز من بيتي حفزني للتجربة، أما والظروف هذه، فبيتي أولى بي، وإن احتجت لأي مساعدة مستقبلا فلن أخيب رجاءك إكراما للمرضى المتعبين ورحمة بهم.
ساد صمت غريب سمعت فيه أنفاس كلتا المرأتين بدقة وانسحبت وفاء باطمئنان وثقة أمام ناظري المديرة التي تمنت لو أنها رأت عيون القهر والإذلال بدل الفخر والسكينة
كانت نظرات ابتسام مستفزة للغاية، وكأنها طردت وفاء من عقر بيتها، ولكن بطلتنا التي صبرت على وقاحتها كثيرا، قررت أنه حان الوقت لمكافأتها بما تستحق، فبعد أن ودعت كل الزملاء بسعة صدر ومودة، همست في أذن ابتسام: "غير تلك الكاميرات المعلقة فوق رأسك وتخافين منها، هناك كاميرا أخرى فوقنا، أمثالك ينسونها...وداعا بلا شرف التعرف عليك".
غادرت وفاء المكان، رفقة تصفيقي الافتراضي خلف الحاسوب، لتلقى قرينها ينتظرها بابتسامة عريضة ويخبرها أنه فخور بها.
وفجّر حينها الفتيل الصغير قلبي محبة وتقديرا.
كان يا مكان في حديث الزمان، فتاة لم تختر لنفسها اسما، لكنها قررت أن يكون اسمها لها عنوانا
مهداة بكامل محبتي لوفاء المالكي