🥉 القارئة -خالد (مسابقة قصتك بقلمي)
مرسل: 16 نوفمبر 2022, 22:53
- 1 -
- كم هي مدة الإعارة لو سمحت يا أستاذة ؟
- عشرة أيام على الأكثر.. تفضلي، قراءة ماتعة.
قالتها منيرة أمينة المكتبة مبتسمة وهي تمدّ الكتاب البرّاق لتلميذة الثانوية الخجول.. القارئة الوحيدة التي سألت عن كتاب طيلة النصف الأول من اليوم.
لا يعني هذا أن المكتبة لا يزورها الناس، فقاعة المطالعة في الرواق الأيمن مكتظة بضحكات التلاميذ وحواراتهم المتظارفة وضجيج مقاطع (التيكتوك) التافهة، قوم لا وقت لديهم للقراءة حرفيا..
حملت منيرة حقيبتها مغادرة، ثم وقفت – كعادتها - لحظة تجيل نظرها بين الرفوف، ومحركة رأسها بأسى انصرفت، وأغلقت خلفها الباب على قاعة المكتبة الباردة كالمشرحة !
كان عمل منيرة مريحا وبعيدا عن مشاكل الاختلاط بالرجال، فكل زميلاتها نساء. إلا أنها لم تكن تبدو مرتاحة لذاك الحد، فقد كانت أكثر زميلاتها حساسية لتفاهة مجالس الناس، وعزوف السواد الأعظم عن القراءة، لا بل عزوفهم عن كل (جملة مفيدة) تقريبا. ولذا كانت كثيرا ما تلقي العبارة الساخرة الشهيرة إياها على مسامع صديقاتها المنهمكات في وصف غسيل جاراتهن.. (أنا عاوزة جملة مفيدة) !
تقولها ببسمة بائسة، فينفجرن ضحكا ويتحدثن قليلا عن موهبة عادل إمام وعظمة مسرحيته المشاغبة، ثم يُقفلن عائدات بلهفة لاستكمال فحيحهن المتحمّس حول الفرق بين مساحيق التصبين، وكيف أن كل واحدة أبرع من الأخرى في تقنيات إزالة البقع، ثم يصير الحديث فجأة – ولسبب مجهول - عن قراءة نوايا زوجات الأبناء المسمومة !
لا تلبث منيرة حتى تقوم - إن آجلا أو عاجلا - من المجلس المعتاد متنهدة لتعيد ترتيب كتب مرتبة، أو تبحث عن طريقة جديدة لفرز المؤلفات التي تقاطعت مواضيعها..
* * *
في إحدى مساءات يناير الباردة، كانت منيرة في مكتبها متدثرة بوشاح بني خشن، قد احمرّت وجنتاها من البرد، وغارقة كانت بين دفتي كتاب سميك خط أوراقه عتيق، وعلى غلافه ببنط مذهب رشيق عبارة (حياة الصحابة – المجلد الأول).
لقد أزف وقت الإغلاق.. وكل شيء حولها ساكن كسكون الموت الأصغر. فلو كانت للكتب أعين فهي الآن مغمضة، ولو كان للكتب أن تشعر بالبرد فهي الآن مكدسة متزاحمة تبغي الدفء !
خرق هذا الصمت البارد صوت الباب وهو يُفتح بخشونة كادت أن تصيح لها الكتب احتجاجا. تململت منيرة في جلستها ببطء لا تدري إن كان بسبب شدة تركيزها فيما تقرأ أم لأنها فزعت من سنة نوم في حضن الوشاح الدافئ..
رفعت وجها ناعسا لتجدها منتصبة أمام المكتب.. فتاة في الثلاثينات، باردة القسمات، لا تظهر كل ملامحها بسبب حجاب أسود غطت أطرافه جبهتها وجانبي وجهها..
- نعم ؟
قالتها منيرة بصوت مبحوح..
- أريد كتابا عن البشر.
- نعم ؟؟
- لقد سمعتني..
- لكن.. لم أفهم !
- كتاب عن تكوين البشر..
- كتاب في.. التشريح تقصدين ؟
- نعم..
- أفزعتني يا أختي، وقد كنت غافية، هه.. لقد تركت قراءة قصص الرعب منذ زمن بعيد لو تعلمين.. هه !
قالتها منيرة وضحكت وهي تنقر بأصابعها على سطح المكتب محاولة بذلك تلطيف الجو..
إلا أن الجوّ لم يتلطّف !
* * *
- 2 -
- 2 -
مضت هذه (اللقطة)، وتوالت الأيام ونست منيرة أمر تلك القارئة الغريبة التي أعطتها حاجتها ذاك المساء.. كتاب في التشريح.
وما كانت لتذكرها لولا أن سمعت صويحباتها يتحدثن قبل قليل عن تشريح رجل مات لأسباب مجهولة.. حديثا متحمسا كأن تشريح جثث الناس أمر يبعث على الفخر!
تذكرت كتاب التشريح إياه، وأرادت أن تحكي لهن غرابة ذاك الموقف، حتى أنها حركت شفتيها، بل صدر منها صوت متحشرج سرعان ما كبتته والتفتت تكمل ما تكتبه في إحدى بطاقات الكتب..
لقد شبعت من الكلام مع هؤلاء النسوة الحمقاوات.. أُتخمت، اكتفت. وكانت تمني النفس قبلها - وا حسرتاه - أن تجد صديقة تؤنس وحدتها، وتفيد من صحبتها، وتبادلها حصيلة قراءاتها ولكن.. صدق من شبّه الصديق الوفي بالعنقاء، كلاهما أسطورة.. إشاعة!
- السلام عليكم !
انتزعت التحية المفاجئة منيرة من خواطرها الكئيبة فرفعت رأسها لتجد.. لا، ليس تلك الغريبة. بل مجرد تلميذة تسألها عن مكان المرحاض !
* * *
في اليوم الموالي، وقد كان صباحا ضبابيا من تلك الصباحات التي لا ترى فيها أمامك إلا أضواء مبهمة، وتنتابك رغبة لمدّ كمّك حتى تمسح به الأفق قليلا!دخلت منيرة المكتبة باكرا كالعادة، وما إن دارت لتنزع المفتاح من الباب حتى شهقت لمرأى تلك الفتاة الغريبة !
- أنتِ ؟.. أتيت مبكرة !
- أنهيت الكتاب..
- اه.. جميل، هه. لحظة حتى أضع ما في يدي، لو سمحت.
- ...
عاودها الارتباك والحيرة لحضور الغريبة كما أول مرة، ولم تدر لذلك سببا مقنعا، ولكنها فتاة غامضة بحق.. إن لم نقل مخيفة.
سعلت منيرة وفركت يديها محاولة التظاهر بالحيوية، ثم تنحنحت بعد أن صار الصمت لا يُطاق..
- إذن.. كيف وجدت الكتاب ؟
- ...
- حسن، هه.. واضح أنك قليلة الكلام. أتدرين أنك غريبة.. بعض الشيء. لا أدري إن كنت تعرفين شخصا يدعى (رفعت خالد)، يكتب قصصا غريبة بها شخصيات.. يعني.. هكذا.. هه.
- من ؟
بلعت منيرة ريقها وندمت على ما قالت..
- لا عليك.. كنت أمزح فحسب. أأحضرت الكتاب ؟
- نعم.. هاهوذا.
وأخرجته من كيس أسود كانت تحمله.. فلمحت منيرة بسرعة قفازا مثقوبا مع كم مرقع ترقيعا سيئا..
- جميل.. أ.. هل لي أن أسألك ؟
كانت الفتاة قد همّت بالمغادرة، فوقفت ملتفتة تنتظر، وفهمت منيرة أنها (نعم) بطريقتها الغريبة..
- أنا أحترم مثابرتك لقراءة كتاب بهذا الحجم.. ولكن، ولا تؤاخذيني.. فيم اهتمامك بالتشريح؟
رفعت الفتاة عينين ذابلتين إلى منيرة، وحدّقت فيها برهة تحديقة كادت تجمد الدم في وجه منيرة، ثم أشاحت بوجهها وقالت أول جملة مكتملة:
- زوجي.. مريض للغاية، وما بقي لنا من المال غير النزر اليسير. فأنا آخذُ بكل الأسباب حتى أفهم مرضه.. لعلي أعينه. والله المستعان.
وانصرفت.. فانحدرت دمعة دافئة على خدّ منيرة..
تمت