العجوز والمقهى - (رفعت خالد)
مرسل: 28 إبريل 2021, 11:52
وضع النّادل الوسيم أمامي كأسَيْ القهوة والماء وجريدة اليوم، ثم ابتسمَ في أدب (تجاري) قبل أن ينصرف بخفة..
حملتُ كيس مسحوق السكر أتأمله بتراخ.. هذه الشعارات والأسماء والعبارات الإعلانية من قبيل (نحن الأفضل) تطاردنا في كل مكان.. متى - يا تُرى - كان سكرٌ أفضل من آخر ؟.. أعتقد أنهم لو كانوا يبيعون التراب لقالوا (ترابنا أفضل) !
مزّقتُ الكيس بعنف ساخرا مما كُتب عليه، ثم أفرغته بأكمله.. صوتُ الملعقة وهي تخلط الأبيض بالأسود في الفنجان حملني بعيدا، إلى أحلام اليقظة التي أدمنتها.. ولمّا أن عدتُ منها، واسترجعتُ وعيي وانتباهي جعلتُ أقلّب صفحات الجريدة بين يديّ فارّا من الإعلانات وعبارات (نحن الأفضل) إياها التي تطلّ عليّ من كلّ مكان.. تكاد تُخرج لي لسانها !
أغاظتني بعض العناوين وأثارت تعجبي أخرى.. فكان كل ما أقرؤه يُترجم فوريا على ملامح وجهي المجعدة وحاجبي الكثين.. وكنتُ بين الفينة والأخرى أدوّن عبارات تهمني على مذكرتي..
حييتُ وجها أعرفه مرّ مُسرعا أمامي..
وضعتُ الجريدة بملل، وحملت المذكرة أنظر لما كتبتُ، وأطرق الطاولة بقلمي مفكرا..
ثم أخرجتُ أوراقا بيضاء وشرعت أكتبُ نصا طويلا مستعملا بعض ما استخرجته من إحدى المقالات..
تذكرت القهوة فجأة، لابد أنها بردت.. تناولت الفنجان ومددت رقبتي لأريحها قليلا، فطالعني منظر رجل بعيد يقتعد مقعدا قبالتي ويحمل قلما على ما يبدو، وفنجان قهوة باليد الأخرى.. وكان يمدّ رقبته هو الآخر !
أوقفت الفنجان الذي كان في طريقه إلى فمي.. حدقت فيه طويلا ولم أتمكن من تحديد ملامحه جيدا لبعد ما بيني وبينه..
هو يكتبُ أيضا على ما يبدو.. لكن لماذا ينظر لي ؟
انحنيتُ مرة أخرى على أوراقي، ثم ما لبثتُ حتى حانت مني نظرة خاطفة نحوه لأتأكد من أمر خطر لي.. وقد كان ما ظننتُه..
هذا الأحمق يُقلّدني !.. إذا انحنيتُ ينحني وإذا ما رفعتُ يدي يرفع يده الأخرى.. اليمنى باليسرى والعكس بالعكس..
ماذا يريد ؟
لوحت بيدي بعصبية.. ففعل مثلي !
عجيب.. الجو الضبابي لهذا الصباح وبُعده عني في هذا المقهى الراقي الفسيح علاوة على كبر سني وبصري المتعب.. ربما أحد هذه الأسباب أو كلها مجتمعة جعلتني لا أرى وجه هذا الرجل الشبح !
هل يعرفني ؟ هل يريد أن يمازحني قبل أن ينفجر ضاحكا ويقوم ليعانقني ؟.. هل.. ؟
شغلني أمره جدا.. ولما لم أجد في نفسي بقية صبر هممتُ بالنهوض ليفعل هو كذلك كما خمّنتُ.. ناديتُ النادل بعصبية ويداي تمسكان مسندي الكرسي بقوة وترتعشان..
جاء الغلام يركض ركضا، بعد أن رأى ما على وجهي من توتر..
- أستاذ ؟
- من ذاك الأحمق الذي يثير أعصابي هناك.. أخبره أن يتوقف فورا عن عبثه الصبياني وإلا..
نظر النادل بفضول إلى حيث أشير بأصبعي المرتعش ثم ارتدّ بصره إلي باسما، وقال:
- إنه أنت يا أستاذ.. احم، معذرة.. ولكن ما تنظر إليه هناك ما هو إلا زجاج لامع جدا يعكس ما أمامه.. وأنت يا أستاذ لم تتبيّنه من هنا..
ثم استدار منصرفا، وسمعت مطلع ضحكة مختنقة !
رفعت خالد
10-2015
حملتُ كيس مسحوق السكر أتأمله بتراخ.. هذه الشعارات والأسماء والعبارات الإعلانية من قبيل (نحن الأفضل) تطاردنا في كل مكان.. متى - يا تُرى - كان سكرٌ أفضل من آخر ؟.. أعتقد أنهم لو كانوا يبيعون التراب لقالوا (ترابنا أفضل) !
مزّقتُ الكيس بعنف ساخرا مما كُتب عليه، ثم أفرغته بأكمله.. صوتُ الملعقة وهي تخلط الأبيض بالأسود في الفنجان حملني بعيدا، إلى أحلام اليقظة التي أدمنتها.. ولمّا أن عدتُ منها، واسترجعتُ وعيي وانتباهي جعلتُ أقلّب صفحات الجريدة بين يديّ فارّا من الإعلانات وعبارات (نحن الأفضل) إياها التي تطلّ عليّ من كلّ مكان.. تكاد تُخرج لي لسانها !
أغاظتني بعض العناوين وأثارت تعجبي أخرى.. فكان كل ما أقرؤه يُترجم فوريا على ملامح وجهي المجعدة وحاجبي الكثين.. وكنتُ بين الفينة والأخرى أدوّن عبارات تهمني على مذكرتي..
حييتُ وجها أعرفه مرّ مُسرعا أمامي..
وضعتُ الجريدة بملل، وحملت المذكرة أنظر لما كتبتُ، وأطرق الطاولة بقلمي مفكرا..
ثم أخرجتُ أوراقا بيضاء وشرعت أكتبُ نصا طويلا مستعملا بعض ما استخرجته من إحدى المقالات..
تذكرت القهوة فجأة، لابد أنها بردت.. تناولت الفنجان ومددت رقبتي لأريحها قليلا، فطالعني منظر رجل بعيد يقتعد مقعدا قبالتي ويحمل قلما على ما يبدو، وفنجان قهوة باليد الأخرى.. وكان يمدّ رقبته هو الآخر !
أوقفت الفنجان الذي كان في طريقه إلى فمي.. حدقت فيه طويلا ولم أتمكن من تحديد ملامحه جيدا لبعد ما بيني وبينه..
هو يكتبُ أيضا على ما يبدو.. لكن لماذا ينظر لي ؟
انحنيتُ مرة أخرى على أوراقي، ثم ما لبثتُ حتى حانت مني نظرة خاطفة نحوه لأتأكد من أمر خطر لي.. وقد كان ما ظننتُه..
هذا الأحمق يُقلّدني !.. إذا انحنيتُ ينحني وإذا ما رفعتُ يدي يرفع يده الأخرى.. اليمنى باليسرى والعكس بالعكس..
ماذا يريد ؟
لوحت بيدي بعصبية.. ففعل مثلي !
عجيب.. الجو الضبابي لهذا الصباح وبُعده عني في هذا المقهى الراقي الفسيح علاوة على كبر سني وبصري المتعب.. ربما أحد هذه الأسباب أو كلها مجتمعة جعلتني لا أرى وجه هذا الرجل الشبح !
هل يعرفني ؟ هل يريد أن يمازحني قبل أن ينفجر ضاحكا ويقوم ليعانقني ؟.. هل.. ؟
شغلني أمره جدا.. ولما لم أجد في نفسي بقية صبر هممتُ بالنهوض ليفعل هو كذلك كما خمّنتُ.. ناديتُ النادل بعصبية ويداي تمسكان مسندي الكرسي بقوة وترتعشان..
جاء الغلام يركض ركضا، بعد أن رأى ما على وجهي من توتر..
- أستاذ ؟
- من ذاك الأحمق الذي يثير أعصابي هناك.. أخبره أن يتوقف فورا عن عبثه الصبياني وإلا..
نظر النادل بفضول إلى حيث أشير بأصبعي المرتعش ثم ارتدّ بصره إلي باسما، وقال:
- إنه أنت يا أستاذ.. احم، معذرة.. ولكن ما تنظر إليه هناك ما هو إلا زجاج لامع جدا يعكس ما أمامه.. وأنت يا أستاذ لم تتبيّنه من هنا..
ثم استدار منصرفا، وسمعت مطلع ضحكة مختنقة !
رفعت خالد
10-2015