الرواية: الحب في زمن الكوليرا
الكاتب: غابرييل غارسيا ماركيز
"الحب في زمن الكوليرا" هي من الشهرة بما كان، كنار على علم، تقريبًا لا تجدُ قارئًا للروايات؛ إلاّ وقرأ هذه الرواية، خاصة عشّاق الرومانسيّة، والقصص العاطفية. أما بالنسبة لي فلستُ محبًّا لهذا الصنف كثيرًا، وأحاول جاهدًا الابتعاد عن هذا اللون من الروايات ما أمكن، ذلك أنّي لا أطيقُ بطبيعتي قصص الحبّ، خاصة وأنها تذكرني ببعض المسلسلات التركية المبتذلة التي كنتُ مجبرًا في مرحلة ما، على متابعتها عبر التلفاز. وقد أوحى لي عنوانها -أي الرواية- في البداية على أنّ الرواية ستدور على قصة حبّ بين شابٍ وفتاةٍ يصابُ أحدهما بالكوليرا، ثم يقوم الكاتب بوصف تطوّر الكوليرا على أحدهما، بينما الآخر يعاني من خوفِ فراقِ الآخر، إلخ.
مع بداية الرواية تغيّر هذا الانطباع الأوّلي عن الرواية، وبدأتُ أتصوّر أنّ الكاتب، سيمزج بين العالم البوليسي، والعالم العاطفي؛ حيث استهلّ روايته بموتِ اللاجئ الانتيلي جيرميادى سانت آمور، غير أنّ أوهامي مرة أخرى تلاشت مع تقدمي في القراءة، وأصبت بخيبة أمل؛ لأنّي بدأتُ أفهم منطق الرواية، وأنّها ستعود إلى ماضِ الشخصيات التي ظهرت في الفصل الأول من الرواية لتسردها، واحدة، واحدةً، أو على الأقل قصة الشخصيات التي بدت رئيسية، وهي الزوج "الدكتور خوفينال أوربينو" والزوجة "فيرمينا داثا" والعاشق "فلورينتينو اريثا". والقصة أنّ هذا الأخير وقع في حبّ محموم عذري مع فيرمينا داثا في طفولتهما، غير أن الأمور لم تسرِ على ما يرام، مما دفع في النهاية فيرمينا داثا بالزواج من الدكتور الذي كان يحظى بشعبية واسعة وحبوبٌ لدى الناس، والتخلي عن عاشقها السابق الذي يمكن وصفه باختصار على أنّه: "قبيح وكئيب، لكنّه ينضح حبًا" كما جاء على لسان ابنة خالة فيرمينا داثا!
لم أكن في البداية أنوي كتابة أيّة مراجعة عن هذه الرواية، مهما كانت مقتضبة وبسيطة، والسبب في ذلك هو الطابع الذي طغى عنها، فبنظرة واحدةٍ تستطيع القول أنّها تنتمي إلى الرواية الواقعية، لكنّها واقعية بشكل فظّ، وأنا حتمًا لستُ من محبي هذا الصنف الذي يغرقك في واقعية "الدعارة والعهر" كما أنّي لا أستسيغ كل تلك المبررات التي يتم عن طريقها محاولة تلطيف هذه الأمور، الرواية ببساطة لا تخرجُ بك من قصة "فجّة، ومعهورة" إلاّ لتدخلك في قصة أكثر منها إغراقًا، حتّى يخيّل لك لكأن عقل الكاتب ليس فيه شيئًا آخر غير القصص الجنسية ليسوّد به صفحات رواياته!
غير أنّي غيّرتُ رأيي في نهاية المطاف، وقررتُ كتابة بعض الأسطر عنها، ذلك أنّها حوت بعض الأمور التي شدّتني كثيرًا، واستوقفتني، ولم أسطع المرور عنها مرور الكرام، ومن تلك الأمور مثلًا، قول فيرمينا داثا، عندما انهت صلتها بفلورينتينو: "لا، أرجوك، انس كلّ شيء" هنا حرفيًّا أصبتُ بصدمة، وقرأتُ العبارة مرة، ثم مرتين، عساي لم أفهم الجملة جيّدًا، أو أنّي اغفلتُ شيئًا ما.. لم أفهم مالذي حدث، بل كيف انقلبت مشاعرها رأسًا على عقب خلال لحظةٍ واحدة، فقبل ثوانٍ قليلة كانت تعتبرهُ زوجها، لا خطيبها أو حبيبها فقط، حتى ظننتُ أنّها مازحته بتلك العبارة لا غير لترى ردة فعله، لكن الأمر لم يكن كذلك، لأنها بالفعل شطبت عليه من حياتها بكلمة واحدة، ومن دون أي سبب مقنعٍ، ولا شك إنّ السبب الوحيد الذي قد يستشفه القارئ من سطور الرواية، هو بسبب عدم وسامته، ونحوله، إلى غير هذه الأسباب المتعلقة بالمظهر، وأحسب إنّ الكاتب أصاب هنا هدفًا حساسًا فالحب ليس كما يدّعي البعض على أنّ الشكل لا يلعبُ أيّ دور، بل له دورٌ، ودورٌ مهمٌ أيضًا، وكلّ من يدعي على أنّ شكل محبوبه لا يهمه، بل يهمه فقط جوهره، أحسبُ أنّه كذّابٌ أو مدّعي!
أما النقطة الثانية التي استوقفتني حرفيًا، وبدأتُ أفكر وأتأمل فيها، فهي بعد سنواتٍ من هذه الحادثة، وذلك عندما كان الراوي يتحدث عن فلورينتينو فقال: " لقد رأى فلورينتينو اريثا نفسه مراتٍ ومراتٍ في هذه المرآة، حتى أنّه لم يشعر يومًا بالخوف من الموتِ كخوفه من أرذل العمرِ" فانتبهت فجأة إلى أنّ شعوري منذ زمنٍ لا يختلف كثيرًا عن شعوره، إذ أنّي أجد أنّ فكرة الموت أهون عندي بكثير من أرذل العمر، فعندما ستقول الحياة كلمتها، وتكون أنت خائر القوى، تحتاجُ في كلّ حركة تقوم بها إلى من يعينك، عندها كل شعارات القوة، والادعاء بالاستقلالية سوف تنهار، ولن تجد عنها مصرفًا، بل إنّك لن تقدر حتى على إضاعة الوقت في القراءة أو المطالعة كما كنت تفعلُ سابقًا، لضعف ووهن البصر آنذاك، فكيف السبيل حينها، وكيف الخلاص؟ وكنت كلّما هممتُ بالتفكير في هذا الأمر سابقًا، أحسّ بغصّة في حلقي، فأبعد الفكرة سريعًا، لكنّها ما تلبث أن تعود.. وكما قال الشاعر:
فــي أرذَلِ الـعُمْرِ لا مـالٌ ولا وَلَـدُ
ولا أنــيـسٌ ولا صَـحْـبٌ ولا سَـنَـدُ.
وبهذا أكون قد وصلتُ إلى نهاية هذا الانطباع السريع عن الرواية، بقيّ شيءٌ واحدٌ فقط أحبّ أن أشير إليه، ألا وهو أنّ نفس الفكرة المريعة من الشيخوخة، هي التي جعلت اللاجئ يضع حدًا لحياته، ويتبيّن لنا ذلك من خلال قوله: "لن أصير كهلا أبدا" التي جاءت في بداية الرواية، التي لم أستحسنها أبدًا؛ لأني لم أجد صلة بين افتتاحية الرواية وبين حبكة القصة الرئيسية.
-تمت بحمد الله-
بقلم: حمزة إزمار (سيفاو)
في 25-01-2022