ينجلي ضوء النهار كما لم يكن ، وتستودع الشمس الأرض في عهدة القمر.
تستحضر السماء وقار السُّكون ، وتبسطُ بالسواد آفاق الفضاء ..
لتعلنُ بلغة الصمت المهيبة : ( قد آوان تجلي " الليل ").
يدنو " الليل" اقترابًا وبحليته السوداء وقارًا . ليخطوعلى أنسام الهواء أنيقا رزينا ..
يلامس راحة السماء فيشتد وهج النجوم ملبية التحية .
ويهمس في الغيوم فتصطف سوية. يتكئ عليها، يداعبها حنانا حتى ينسكب من بين بسماتها طلُّ المطر.
ثم يستدعي كعادته " القمر" .
وما إن يستوفي منه الأخير قربًا ،، حتى يطرح ذاك السؤال المعهود أزلا.
- : أيها القمر. من ناجاك الليلة من البشر ؟
من قص عليك حروفه بماء الدمع قهرا ؟ ومن ابتسم لنورك جذلا وغزلا ؟
من أمسك عن تأملك نوما وتعبا؟ ومن أسهب في تمعنك سهادا وأرقا ؟
من أخمد صوت بوحه عن الذكرى قلقا ؟ ومن سكب بالحديث على محياك نغما ؟
تجتمع النجوم مصغية أذانها بينما تدق النسائم الوقت برهة .
ثم ، يبتدئ حديث "القمر".........
..............
- : أما فلان ،،
فقد أدركته خطوب الحياة وارتسم على حافتي شفاهه تجاعيد وألم ،حتى لم يعد يذكرُ أن قد ابتسم بذا الثغر يوما.
في أخاديد وجهه حكاياتٌ قديمة ، حروفها عتيقة. وما بين الألف والهاء -آه- تنهيدة مشيب تحكي ما مضى.
سبعون عاما قد تلاحقت كسيلٍ عرم. حرث فيهن الأرض صبحا ومساءً. أفاضَ على التراب من عرق الجبين حد الارتواء .
وفي ذات كل ظهيرة ، كان يلُوحُ من بين وريقات الشجر وجه زوجته البشوش ، فيبتسم لها وهو يراقب بحب صغاره القادمين من بعدها ركضا ولهوا.
يختارون بقعة دافئة ذات نسيم عليل ، يجلسون في حلقة دائرية تفيض بالحب ثم يأكلون الطعام هنيئا مريئا.
ومن بعد أعوام لا هي بالقليلة ولا بالكثيرة . تدافع الصغار نحو أحلام الشباب ، هجروا القرية والتحقوا بميدان المدينة.
وفي ليلة صيفية حارقة ، ارتحلت الزوجة نحو بارئها وهُجر العجوز في بيته الخاوي وحقله المثمر! يتمنى طالعًا يخبره عن أحوال صغاره.
وقد رأيته الليلة إذ يمد جسده المنهك فوق سريره . وما إن تلقفت رأسه وسادته وطوى عظامه الغطاء ، حتى تداعى في سباتٍ عميق جريح .
- وأما آخر ،،
فتأملني بعد سهادٍ وأرقٍ أعمَلَ بصمته حول نطاق عينيه بالسواد .
وفي غمرة حملقته نحو الفراغ ، تنهد مستسلما و أمسك هاتفه ، أرفق كلمة السر "أمل" ثم دون على أسطر مذكراته .
ولكنـَّ أنفة الكَسرِ ! تأبى عليـك انكسارات الصباح !
وتُمنِّيك بانجلاء الضوء رويدا رويدا ,,
هامسة في قلبـك ها قد حل الظلام ! وعلى هامش البوح اعتراف أليم تركض نحو حضنه : ها هو الليل هنا يا ذارف العبرات )
أعاد قراءة حروفه مبتسما دامعا ، فخورا محزونا ، وتأمل في فضل مولاه وحكمته فسلوى الكتابة كاليسر مع العسر .
وفي غمرة الحَمد ، تنبه لمؤشر الكتابة ينبض مرارا وتكرار وكأنما يتناغم مع نبضات شجنه ، أو كأنما يدعوه ليكلِّلَ ثمرة تأملاتِ ليلته في جملة ختامية أخيرة.
فما كان منه إلا أن تلاحق بأنامله على تلك الشاشة الزجاجيةز
للأوجاع أجر ,, وللصبر أجر ,, وللأجرين يضاعف الرحمن أجورا ,,
لطالما كان جناح الصبر ذا حمل ثقيل..)
- وأما آخر
فقد فكان الحبور يشقُّ طريقه بين ملامح عينيه وفي أخاديد وجهه.
وفي طيات ارتباكه السعيد رأيته إذ استوسد عتبة نافذته وابتسم لي !
أخبرني أنه يهيم بفلانة حبا، وأن العشق استنزف من روحه عمرا ، وأنه سيبلغ الصبيحة بيتها يطلب وصالها ويسألها عهدها بالوفاء شبابا ومشيبا .
صمتَ برهة ثم نفض وريقة أخرجها من جيب استوطن فوق قلبه.
وفي صوت شجي أخذ يعيد قراءة مهر الحب الذي سيتلوه في غده.
أنسام العشق بعينيها .. تغري الألحان فتنطرب
أشدو من وحي أناملها .. نجما يلتاع ويلتهب
ما زال لوقع مفاتنها .. أطلال فيها أرتحب
أرخي أستار تصبرك .. في عشقي قولي أنتسب
تتهادى صوبك أجنحتي .. رفقا بالعشق سيغترب"
- وأما آخر ،، فمنهمك بين أسطر العلم ، قد حرمت مقلتيه النوم ليال طوال .
حازمٌ صارمٌ يعد أنفاس الوقت عدا ويثابرها جهدا وعملا.
عزيمته لا تلين لقساوة النعاس حين يغشى جفونه المحمرة .
ينظر للمستقبل بأمل ويطمح في غرسه بالجد والعمل .
وقد رأيته إذ سطَّرَ مقدمة كراسة الملحوظات بأحرف عريضة ، يفوح منها أريج الشغف والعزم.
- وأما فلانة ،،
فكانت في سريرها الوردي ، تبتسم ملء فمها الذي تنقصه العديد من الأسنان.
عدَدتُ أنفاسها المتناغمة الدافئة، وراقبت بطنها يعلو ويهبط في انسجام ، لكني استشعرت روحها تسبح في أرض الأحلام .
بقرب وسادتها دمية حديثة الشراء ، على شاكلة خيل أدهم اللون ذا صهوة كحلاء وغرة بيضاء.
لا شك أن فؤادها البريء لم تجِفَّ ماءُ دهشته من رحلة اليوم ، حدَّ أنه قد أَلحق الخيل بها في المنام.
- وأما فلانة ، أخبروني أن تحت قدميها الجنان تتغنى كرمًا.
أيقظها من بعد نوم دام دقائق معدودة، بكاء رضيعها الجائع.
دنت منه بحنو وحملته بين ضلوعها .
نظرت لعينيه اللامعتين ورأت فيهن انعكاس الجمال ومعاني الأمل.
تبسمت له بعيني فؤادها بينما أخذت تطعمه وترويه بدفء أمانها. تفديه هي بروحها كما تفدي إخوته الأكبر سنا .
وبينما هي على تلك الحال ضحكت بخفة لخاطرٍ سرى في روحها ولكن ما لبثت أن نزفت من عينيها دمعتان راجيتان .
أخذت تداعب أرنبة أنفه وهي تحادثه بهمس . أتعلم يا صغيري:
ستنمو شعيرات ذقنك مثلهم .
ستزداد خشونة صوتك.
ستتفاخر بازدياد طولك مقارنة بي .
وستبدأ بإعطاء أوامر لي في حزم طفولي .
لا تخرجي ! افعلي ! لا تفعلي !
سينهمر اندفاعك مثلهم في معركة الحياة عجالا .
وستكثر أخطاؤك.
سترفض الاستماع لنصائحي .
وستعتز بآرائك في أنفة وكبرياء .
سيشتعل قلبك بمشاعر متضاربة بينما ستنطفئ أوهام الطفولة في عينيك .
لا عليك .
ستنسج أحلاما جديدة . ولكنك من بعدها ستغادر دفء البيت نحو ميدان الحياة ,,
ولكن تذكر ، طالما "ماما "هنا. هي لن تمل الانتظار
- وأما آخر ،، فكان وجهه منكبا في سجود أطاله لله حمدا وشكرا ، خوفا وآملا .
سمعته يدعو لوالديه فضلا ،ويذكر زوجه وبنيه بحسن الختام رغبا ورهبا.
لديه صديق أحبه في الله عمرا ، فذكره بدعوة صادقة وتمنى من الله أجرا .
وقد رأيته إذا ناجى الله بالسجود مطولا ، ولست مطلعا على بوحه ، إنما قد بلغ مسامعي صوت انسكاب الدمعات تصافح أرضية محرابه .
وفي ختام قيامه ككل ليلة، أخذ مصحفه بين يديه ، حضنه بحب مستشعرا أنه كلام مولاه .
أخذ يتلو الآيات مترنما ، بتجويد يشهد له بصحبة القرآن .
وصوته مزمارٌ يستحضر الخشوع.
«««
تراجع بضع خطوات .
بينما نهض الليل في مهابة حتى توسط الجمع .
أطال ابتسامة كللها بالوقار و أشار لخيط الفجر وقد تبين في عتمة السماء .
أخذ ينجلي رويدا رويدا وهو يرتل صادحا بصوته.
وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ﴿٣٣ ابراهيم﴾