رحلة مجانية - جويدة
مرسل: 12 يناير 2022, 11:44
كان الشوق و الواجب يدعوني دائما للتعريج الى بيت أمي ، فقد أصبحت تعيش وحيدة و الزمن قاس لا يعرف الرحمة ، و علي –و انا البنت الصغرى –ان أكون طيّعة اكثر من بقية أبنائها ، فقد قربتني دوما اليها و نلت منها حظوة لا يمكنني التملص من واجب ردها و قد بلغت الكبر ، و ليس الامر واجبا محضا فحسب ، فأمي امرأة ممتع الجلوس اليها ، و ليست هي سيدة مثقفة و لا حكيمة ، و لكنها بطبعها اجتماعية متفتحة لأقصى الحدود ، تحسن مجالسة القريب و الغريب ، الصغير و الكبير و كانت بهذا تتفوق على جميع أبنائها و أنا منهم ، و لطالما اضحكتني احاديثها و سرتني ذكرياتي معها حين كنت اغيب لطارئ ما ،و لم اكن ممن يغيب عنها لدرجة اشتياقها لي.
في أغلب زياراتي لأمي كنت ألقى أختي ، صاحبة سري و اقرب أصدقائي الي ،حتى انها باتت لصيقة بي، فأبثها ما لا اقوى على الإفصاح به لزوجي.
ذهبت ذلك اليوم كالعادة الى أمي ، و كان شيئا ما يجثم على صدري ،و أحيانا لا اتبين كل مكامن نفسي ، فأجدني ممتعضة مغتاظة من شيء لا ادرك كنهه و لا سببه ،فأفتش عنه طويلا و لا القى جوابا لسؤالي :" لما انا منزعجة" ؟ ثم يغيب السؤال، و يزول الهّم دون ان اشعر بغيابهما.
وصلت باب البيت و كان مواربا ، دفعت به فانفرج ، فأمي لا تغلق بابها بالمفتاح عادة الا ليلا ...شيء غريب كان يحدث ، شعرت به و لم ادركه ، رحت أحاول بلوغ غرفة نومها و كنت اتعثر ببعض الارانب التي تربيها أمي ، و الغريب انها تكاثرت اكثر مما تخيلت ...كانت مع هذا كبيرة ، نظيفة و جميلة بفرائها الابلق البراق ،و ربما كانت اكبر مما ينبغي .
اتجهت الي حيث اسمع صوت التلفاز فأمي تضيع وقتا ثمينا في مشاهدته ، هو سلواها و متعتها ...قبلتها و جلست الى جوارها .
كانت تبتسم لي كالعادة، و راحت تسرد لي قصة المسلسل الذي رأته للتو، و كنت اريد ان اقنعها بالتخلي عن هذه العادة السخيفة لكنني آثرت تركها وشأنها لألا تنزعج مني .
فجأة دخلت علينا فتاة قمحية اللون ، بعيون صغيرة حادة و شعر شديد النعومة ، و كانت ترتدي فستانا حريريا مزركشا من طراز صيني ...ابتسمت لي و كلمتني بلهجة لم أتبينها ...نظرت الى أمي لأعرف من تكون ، فابتسمت و قالت انها خادمتها الخاصة و هي أجنبية .
تعجبت من الامر ، فأمي ليست من الذين يتخذون خادمات في بيوتهن ، فلا مستواها المعيشي يسمح و لا ألفت منها قبل هذا اتخاذ هذه العادة ، فلطالما أوصتنا بتحاشي ادخال امرأة اجنبية الى بيوتنا مخافة الوقوع في مشاكل لا حصر لها، فالزمن موحش ،و الناس فيه اكثر وحشة ، ثم استقر في نفسي ان امي قد تحتاج الى صحبة اكثر مما تحتاج الى من يخدمها ، لكن شيئا ما دفعني للتنقيب عن حقيقة هذه الفتاة ،فلحقتها الى حجرتها و جلست الى جانبها ، فكرت ...باي لغة سأتواصل معها ؟ جربت الفرنسية أولا ، فهي أكثر سلاسة على لساني ، لكن الفتاة لم تستجب ...جربت الإنجليزية ، و كنت اقرب الى الضعف فيها لكنني أتدبر أمري و ان لم استطع التواصل معها بدقة فإنني استطيع حتما إيصال فكرتي اليها ،سألتها تحديدا عن مسقط رأسها فأجابت إجابات مترددة أثارت فضولي بانجليزيتها الاكثر ضعفا من انجليزيتي ...سايرتها اكثر و امعنت النظر في عينيها و أظهرت شكوكي حيالها لأربكها اكثر، فتخبرني بما تخفيه ، فانفرط انعقاد لسانها ،و كلمتني بالعربية سهوا ، و تظاهرت بأنني لم اتفطن للأمر، و واصلت تحقيقاتي الكولومبية مع هزال لغتي ، فانفجرت الفتاة أمامي تطلب ان استر عليها كذبها ،فقد كانت مضطرة اليه اضطرارا ، و لست ادري لما ، لكنني شعرت انها كانت بحاجة لمأوى آمن ،و لطعام هانئ ، و ذلك حق مشروع لها ...اختلط شعوري بالغضب منها لأنها خدعت أمي، و شعوري بالشفقة لأنها بدت في ورطة ،و لم أدر كيف أتصرف حيال الامر ، و لم تدم حيرتي طويلا ، اذ أقبلت علي أمي تخبرني أن أختي وصلت ، و جرّني الحنين اليها ،و لعلي كنت اريد بثها وجعا جديدا لأتخلص منه ،او تخف علي وطأته ،و نسيت امر الخادمة ،و هممت بملاقاة اختي، لكن أمي استعجلتني لصحبتها الى وسط المدينة ،اذ يبدو ان هناك حدث مريب هناك .
لما تحشر أمي انفها في المشاكل و تذهب دائما الى حيث لا يجب ؟ لست ادري ..ربما هو الفضول الذي أورثتني إياه ، فهو و ان دفعنا الى حتفنا فإننا لا نقوى على كبحه
لم اكن راغبة ،و لا مستعدة لمغادرة البيت ، فقد وددت بشدة رؤية أختي و سيرخي الليل سدوله قريبا ..حاولت اثناء أمي عن فكرة الخروج لكنها امتعضت ، و عزمت الذهاب بمفردها .
هي تعرف انني لن اقوى على اغضابها، و سأرضخ لمطالبها ان هي أبدت تصلبا في قرارها .
ارتدت حجابها و غادرت البيت سريعا و كأنها تخشى ان تفوت فرصة ذلك الحدث ،و أنا لم املك سوى اللحاق بها و ظلت تلك الارانب التي ازداد عددها تركض هنا و هناك فتعرقل مساري .
عند عتبة الباب صادفت احدى جاراتنا و كانت تطلب ارنبها الذي فر من بيتها ليلتحق بأرانب أمي ، و ذاك يفسر شعوري بكثرة عددهم فابتسمت في سري و قلت : "حتى الارانب صارت امي تستميلهم اليها ."
٠كانت أمي لا تزال أمام باب البيت ...كانت تعرف انني ضعيفة تجاهها، فابتسمت من جديد، و راحت تسارع الخطى كطفل صغير ،
طوقت خصرها ،و حثثت الخطى بعد ان تسلل القلق الى قلبي، و ساورني خوف كبير من شيء ما ...ربما الظلام ما هو يخيفني .
حاولت في أثناء هرولتي ان اجعل امي تستمع الى صوت العقل ، لتتراجع ، فالظلام سيحل قريبا، و قد لا نجد ما يحملنا للعودة الى البيت ، ثم ، ما نفع رؤية شيء لا يهمنا من قريب أو بعيد ؟ فلتحترق البلدة عن بكرة ابيها ، ما يهمني من ذلك ؟انما همي هو سلامة أمي قبل كل شيء .
لم تكن أمي تبالي بثرثرتي ، و بدت لي كطفل ذاهب الى حديقة التسلية ، كانت شديدة الحماسة ،و الفرح .
وصلنا الى المحطة الواقعة ادنى الهضبة ، و رحت أحدق بالواقفين فيها و تلك عادة سيئة أخرى من عادات أمي .
كان بالقرب مني يقف ثلاثة شبان ، و لفت انتباهي ذلك الأسمر القصير ، كان يبدو حزينا ، منشغلا عن صديقيه ، و رحت اصغي الى أحاديثهم و عرفت أن ذاك الشاب الملفت هو من فلسطين ، فغلبت علي الرغبة في التحدث اليه .
لطالما شعرت بشفقة عارمة تجاه الفلسطينيين ، ربما لشعوري بالتقصير تجاههم ، ربما لانهم يستحقون ذلك العطف كبشر يعانون من ويلات اليهود ، ربما لأنه لم تقع عيني على فلسطيني سعيد أبدا ، كلهم يبدون منكسرين ، حيارى ، كمن يشعر بالمرارة منذ ميلاده ،فلا يعرف غيرها مذاقا .
حاولت قول شيء له ، ربما الاعتذار ، ربما مجرد كلمات لطيفة ألقيها في جوفه ، لكنني وقفت مسمّرة ،أنظر اليه وهو ينظر الى صاحبيه بعقل شارد .
ازداد الظلام شدة ،و تحولت الى أمي ارجوها ان نعود أدراجنا لكنها رفضت ، فقد وجدت جليسا ممتعا غيري ...فتاة في سني ، بدى عليها مظهر الجد و الصرامة ،و لا ادري كيف استطاعت امي استمالتها ،فكل القلوب تهوي اليها بطرفة عين ،و ابتسامة، و كلمة .
اشتد الظلام ،و لم تصل حافلتنا بعد، بينما خفّت حركة السيارات ، و لا تزال أمي في استمتاع و لهو ، جذبتها بقوة من ذراعها من فرط الفزع ، متوسلة إياها أن نعود ، فوجهت الفتاة الي نظرة مستفزة ،و كأنها تدعوني بالعاقة .
تلك النظرة بلغت مبلغا قويا من نفسي ، بل فجرت كل كياني ، فرحت أحدق بها بكل ما أوتيت من طاقة بصرية ،حتى كأني شعرت بالكهرباء يتولد من عيني لتصعق الفتاة ، وقلت : قد ترين في لساني حدة ، و في وقفتي شجاعة و خفة ، لكنني لست سوى فتاة جبانة ، أجل أنا أجبن مخلوقة على الأرض ، أنا أخشى الظلام و أخشى أولاد الحرام الذين يتوالدون فيه كالحلزون ، اخشى ان يعتدوا علي ، ألا تفهمين ؟ أخشى ألا أجد المواصلات للعودة الى البيت حتى أنني لا اجرؤ على إيقاف سيارة اجرة لأني لا أثق بهم ، لا أثق بأحد أبدا اذا جن الليل .
لم تنبس الفتاة بكلمة ،و ظلت أمي متزمتة ،مصرة على رأيها ،فقررت العودة بمفردي ،و لعلها حينها تجبن ،و تلحق بي .
صعدت أعلى الهضبة، و كان بوسعي أن أطل من خلالها على المنتظرين في المحطة ، لكن منظرا آخر شدني اليه .
بصرت غير بعيد من هناك ،كأن الأرض انشقت و برزت على سطحها فوهة كبيرة ، وخرج منها شيء مضيئ و كبير جدا ...رحت أحملق أكثر لأتبين الامر ، و جزعت للتفكير أنه قد يكون بركانا ثائرا سيودي بكل المدينة، و لعل هذا هو الحدث الذي تريد أمي الذهاب لرؤيته .
أمي ...نعم ، تذكرت أن أمي في الأسفل ، ألقيت ببصري الى هناك، فلم اعثر عليها ، ربما تكون قد غادرت منذ قليل.
لم اشعر الا و قد انجرف المكان الذي كانت تطؤه قدمي، فركضت سريعا على غير اتجاه و أنا اكاد أفقد صوابي لتضييعي أمي ، و بدأت اصرخ لا اراديا صراخا فتت كل ذرة من جسدي .
استيقظت على وقع تربيت خفيف على كتفي .
قال زوجي : أنت تصرخين بمنامك ، هل رأيت كابوسا ؟
كان جسدي يتصبب كله عرقا ، و كنت اجهش بالبكاء .
عز علي تكرار كل ما رأيت ،فاستلقيت على جانبي الايمن، لاعنة الشيطان ثلاثا، ثم عاودت السفر الى العالم الآخر .
في أغلب زياراتي لأمي كنت ألقى أختي ، صاحبة سري و اقرب أصدقائي الي ،حتى انها باتت لصيقة بي، فأبثها ما لا اقوى على الإفصاح به لزوجي.
ذهبت ذلك اليوم كالعادة الى أمي ، و كان شيئا ما يجثم على صدري ،و أحيانا لا اتبين كل مكامن نفسي ، فأجدني ممتعضة مغتاظة من شيء لا ادرك كنهه و لا سببه ،فأفتش عنه طويلا و لا القى جوابا لسؤالي :" لما انا منزعجة" ؟ ثم يغيب السؤال، و يزول الهّم دون ان اشعر بغيابهما.
وصلت باب البيت و كان مواربا ، دفعت به فانفرج ، فأمي لا تغلق بابها بالمفتاح عادة الا ليلا ...شيء غريب كان يحدث ، شعرت به و لم ادركه ، رحت أحاول بلوغ غرفة نومها و كنت اتعثر ببعض الارانب التي تربيها أمي ، و الغريب انها تكاثرت اكثر مما تخيلت ...كانت مع هذا كبيرة ، نظيفة و جميلة بفرائها الابلق البراق ،و ربما كانت اكبر مما ينبغي .
اتجهت الي حيث اسمع صوت التلفاز فأمي تضيع وقتا ثمينا في مشاهدته ، هو سلواها و متعتها ...قبلتها و جلست الى جوارها .
كانت تبتسم لي كالعادة، و راحت تسرد لي قصة المسلسل الذي رأته للتو، و كنت اريد ان اقنعها بالتخلي عن هذه العادة السخيفة لكنني آثرت تركها وشأنها لألا تنزعج مني .
فجأة دخلت علينا فتاة قمحية اللون ، بعيون صغيرة حادة و شعر شديد النعومة ، و كانت ترتدي فستانا حريريا مزركشا من طراز صيني ...ابتسمت لي و كلمتني بلهجة لم أتبينها ...نظرت الى أمي لأعرف من تكون ، فابتسمت و قالت انها خادمتها الخاصة و هي أجنبية .
تعجبت من الامر ، فأمي ليست من الذين يتخذون خادمات في بيوتهن ، فلا مستواها المعيشي يسمح و لا ألفت منها قبل هذا اتخاذ هذه العادة ، فلطالما أوصتنا بتحاشي ادخال امرأة اجنبية الى بيوتنا مخافة الوقوع في مشاكل لا حصر لها، فالزمن موحش ،و الناس فيه اكثر وحشة ، ثم استقر في نفسي ان امي قد تحتاج الى صحبة اكثر مما تحتاج الى من يخدمها ، لكن شيئا ما دفعني للتنقيب عن حقيقة هذه الفتاة ،فلحقتها الى حجرتها و جلست الى جانبها ، فكرت ...باي لغة سأتواصل معها ؟ جربت الفرنسية أولا ، فهي أكثر سلاسة على لساني ، لكن الفتاة لم تستجب ...جربت الإنجليزية ، و كنت اقرب الى الضعف فيها لكنني أتدبر أمري و ان لم استطع التواصل معها بدقة فإنني استطيع حتما إيصال فكرتي اليها ،سألتها تحديدا عن مسقط رأسها فأجابت إجابات مترددة أثارت فضولي بانجليزيتها الاكثر ضعفا من انجليزيتي ...سايرتها اكثر و امعنت النظر في عينيها و أظهرت شكوكي حيالها لأربكها اكثر، فتخبرني بما تخفيه ، فانفرط انعقاد لسانها ،و كلمتني بالعربية سهوا ، و تظاهرت بأنني لم اتفطن للأمر، و واصلت تحقيقاتي الكولومبية مع هزال لغتي ، فانفجرت الفتاة أمامي تطلب ان استر عليها كذبها ،فقد كانت مضطرة اليه اضطرارا ، و لست ادري لما ، لكنني شعرت انها كانت بحاجة لمأوى آمن ،و لطعام هانئ ، و ذلك حق مشروع لها ...اختلط شعوري بالغضب منها لأنها خدعت أمي، و شعوري بالشفقة لأنها بدت في ورطة ،و لم أدر كيف أتصرف حيال الامر ، و لم تدم حيرتي طويلا ، اذ أقبلت علي أمي تخبرني أن أختي وصلت ، و جرّني الحنين اليها ،و لعلي كنت اريد بثها وجعا جديدا لأتخلص منه ،او تخف علي وطأته ،و نسيت امر الخادمة ،و هممت بملاقاة اختي، لكن أمي استعجلتني لصحبتها الى وسط المدينة ،اذ يبدو ان هناك حدث مريب هناك .
لما تحشر أمي انفها في المشاكل و تذهب دائما الى حيث لا يجب ؟ لست ادري ..ربما هو الفضول الذي أورثتني إياه ، فهو و ان دفعنا الى حتفنا فإننا لا نقوى على كبحه
لم اكن راغبة ،و لا مستعدة لمغادرة البيت ، فقد وددت بشدة رؤية أختي و سيرخي الليل سدوله قريبا ..حاولت اثناء أمي عن فكرة الخروج لكنها امتعضت ، و عزمت الذهاب بمفردها .
هي تعرف انني لن اقوى على اغضابها، و سأرضخ لمطالبها ان هي أبدت تصلبا في قرارها .
ارتدت حجابها و غادرت البيت سريعا و كأنها تخشى ان تفوت فرصة ذلك الحدث ،و أنا لم املك سوى اللحاق بها و ظلت تلك الارانب التي ازداد عددها تركض هنا و هناك فتعرقل مساري .
عند عتبة الباب صادفت احدى جاراتنا و كانت تطلب ارنبها الذي فر من بيتها ليلتحق بأرانب أمي ، و ذاك يفسر شعوري بكثرة عددهم فابتسمت في سري و قلت : "حتى الارانب صارت امي تستميلهم اليها ."
٠كانت أمي لا تزال أمام باب البيت ...كانت تعرف انني ضعيفة تجاهها، فابتسمت من جديد، و راحت تسارع الخطى كطفل صغير ،
طوقت خصرها ،و حثثت الخطى بعد ان تسلل القلق الى قلبي، و ساورني خوف كبير من شيء ما ...ربما الظلام ما هو يخيفني .
حاولت في أثناء هرولتي ان اجعل امي تستمع الى صوت العقل ، لتتراجع ، فالظلام سيحل قريبا، و قد لا نجد ما يحملنا للعودة الى البيت ، ثم ، ما نفع رؤية شيء لا يهمنا من قريب أو بعيد ؟ فلتحترق البلدة عن بكرة ابيها ، ما يهمني من ذلك ؟انما همي هو سلامة أمي قبل كل شيء .
لم تكن أمي تبالي بثرثرتي ، و بدت لي كطفل ذاهب الى حديقة التسلية ، كانت شديدة الحماسة ،و الفرح .
وصلنا الى المحطة الواقعة ادنى الهضبة ، و رحت أحدق بالواقفين فيها و تلك عادة سيئة أخرى من عادات أمي .
كان بالقرب مني يقف ثلاثة شبان ، و لفت انتباهي ذلك الأسمر القصير ، كان يبدو حزينا ، منشغلا عن صديقيه ، و رحت اصغي الى أحاديثهم و عرفت أن ذاك الشاب الملفت هو من فلسطين ، فغلبت علي الرغبة في التحدث اليه .
لطالما شعرت بشفقة عارمة تجاه الفلسطينيين ، ربما لشعوري بالتقصير تجاههم ، ربما لانهم يستحقون ذلك العطف كبشر يعانون من ويلات اليهود ، ربما لأنه لم تقع عيني على فلسطيني سعيد أبدا ، كلهم يبدون منكسرين ، حيارى ، كمن يشعر بالمرارة منذ ميلاده ،فلا يعرف غيرها مذاقا .
حاولت قول شيء له ، ربما الاعتذار ، ربما مجرد كلمات لطيفة ألقيها في جوفه ، لكنني وقفت مسمّرة ،أنظر اليه وهو ينظر الى صاحبيه بعقل شارد .
ازداد الظلام شدة ،و تحولت الى أمي ارجوها ان نعود أدراجنا لكنها رفضت ، فقد وجدت جليسا ممتعا غيري ...فتاة في سني ، بدى عليها مظهر الجد و الصرامة ،و لا ادري كيف استطاعت امي استمالتها ،فكل القلوب تهوي اليها بطرفة عين ،و ابتسامة، و كلمة .
اشتد الظلام ،و لم تصل حافلتنا بعد، بينما خفّت حركة السيارات ، و لا تزال أمي في استمتاع و لهو ، جذبتها بقوة من ذراعها من فرط الفزع ، متوسلة إياها أن نعود ، فوجهت الفتاة الي نظرة مستفزة ،و كأنها تدعوني بالعاقة .
تلك النظرة بلغت مبلغا قويا من نفسي ، بل فجرت كل كياني ، فرحت أحدق بها بكل ما أوتيت من طاقة بصرية ،حتى كأني شعرت بالكهرباء يتولد من عيني لتصعق الفتاة ، وقلت : قد ترين في لساني حدة ، و في وقفتي شجاعة و خفة ، لكنني لست سوى فتاة جبانة ، أجل أنا أجبن مخلوقة على الأرض ، أنا أخشى الظلام و أخشى أولاد الحرام الذين يتوالدون فيه كالحلزون ، اخشى ان يعتدوا علي ، ألا تفهمين ؟ أخشى ألا أجد المواصلات للعودة الى البيت حتى أنني لا اجرؤ على إيقاف سيارة اجرة لأني لا أثق بهم ، لا أثق بأحد أبدا اذا جن الليل .
لم تنبس الفتاة بكلمة ،و ظلت أمي متزمتة ،مصرة على رأيها ،فقررت العودة بمفردي ،و لعلها حينها تجبن ،و تلحق بي .
صعدت أعلى الهضبة، و كان بوسعي أن أطل من خلالها على المنتظرين في المحطة ، لكن منظرا آخر شدني اليه .
بصرت غير بعيد من هناك ،كأن الأرض انشقت و برزت على سطحها فوهة كبيرة ، وخرج منها شيء مضيئ و كبير جدا ...رحت أحملق أكثر لأتبين الامر ، و جزعت للتفكير أنه قد يكون بركانا ثائرا سيودي بكل المدينة، و لعل هذا هو الحدث الذي تريد أمي الذهاب لرؤيته .
أمي ...نعم ، تذكرت أن أمي في الأسفل ، ألقيت ببصري الى هناك، فلم اعثر عليها ، ربما تكون قد غادرت منذ قليل.
لم اشعر الا و قد انجرف المكان الذي كانت تطؤه قدمي، فركضت سريعا على غير اتجاه و أنا اكاد أفقد صوابي لتضييعي أمي ، و بدأت اصرخ لا اراديا صراخا فتت كل ذرة من جسدي .
استيقظت على وقع تربيت خفيف على كتفي .
قال زوجي : أنت تصرخين بمنامك ، هل رأيت كابوسا ؟
كان جسدي يتصبب كله عرقا ، و كنت اجهش بالبكاء .
عز علي تكرار كل ما رأيت ،فاستلقيت على جانبي الايمن، لاعنة الشيطان ثلاثا، ثم عاودت السفر الى العالم الآخر .