موعد اليوم المفتوح - (جويدة)
مرسل: 10 ديسمبر 2021, 16:03
اسمي "ماروكو ساكورا"، أبلغ من العمر تسع سنين وأدرس بالصف الثالث، والكل يناديني "ماروكو الصغيرة"
بالواقع لا أحب المدرسة كثيرا لأن المعلم يفرض علينا واجبات كثيرة وأنا لا أحب الواجبات لأنني لا أحب إرهاق نفسي.
اليوم وقف معلمي في تواضع كالعادة، وأطلعنا على أسوء خبر على الإطلاق: غدا يوم الفصل المفتوح.
قفز الأطفال في فرح وزهو، فغدا كلّ سيبرز مواهبه وقدراته أمام ذويه ...غدا يوم التفاخر والتباهي أو الانكسار والتدني،" سيمضي ثقيلا ومخز بالنسبة لي "، همست لصديقتي تامي.
قال المعلم أنه علينا تخيل أهالينا كنوع من الخضار لتفادي الشعور بالقلق من حضورهم ورقابتهم -ربما قرع وباذنجان-فهاج الصف كله وماج، وسرعان ما تخيلت ذلك بدوري ...أمي برأس قرع كبير، ولم أمسك نفسي من الضحك كسائر الصف.
في طريق العودة إلى البيت، كنت أحمل هما لا يطاق، ورحت أحرث الأرض في تمايل، يمنة ويسرة، وأملي الوحيد ألا أصادف أمي بالبيت، وبالكاد فتحت الباب وهمست كالعادة إيذائنا بوصولي، وإذ بأمي تظهر لي كالشبح مرتدية مئزرها الأبيض، ولست أدري لماذا تمنيت ألا أجدها، رغم أن وجودها بالبيت يوميا أمر محتم.
خطرت ببالي حينها أن أدعو جدي للحضور بدلا عنها، هكذا لن أشعر بالحرج فبيني وبين جدي توافق كبير ولن يغضب مني إن رأى ما يخيب ظنه وقد يساعدني أو يتستر عليّ.
تسللت إلى غرفته، وكان حينها يتربع الأرض ويكتب شيئا ما على الورق بينما يغط في نوم عميق، حد الشخير ...أيقظته برقة وحمت حوله كقط يتسول الطعام، وجلست قربه أتمسح بوجهي على ذراعه، وأخبرته أنني أريد منه خدمة.
ببديهته، فهم جدي ما لم أعنه ... ذلك جدي الحبيب ، يفهم ما أريد قبل أن تفهم نفسي ذلك ،و حين رأت عيناي كيس النقود ، نسيت ما كنت أريد و سررت بظنه بي و أقبلت على الين أقبله و أشكر جدي عليه بحرارة ...و قبل أن أهديه قبلة الشكر هو الآخر دخلت أمي علينا كالبرق ثم أرعدت حين علمت بدعوة اليوم المفتوح من إحدى جاراتنا ،و سألتني عن سبب إخفاء ذلك عنها فلم يكن هناك بد من إخبارها برغبتي بحضور جدي بدلا عنها ،لأنني لست ماهرة بالرياضيات و حتما ستشعر بالخجل من أدائي أمام باقي الأولياء ، لكنها بدل تفهم الأمر، قالت أن أدائي سيتحسن بالمراجعة ، فرردت عليها بصوت واحد مع جدي ملوحين باليد نفيا أنه أمر محال ، ثم أردفت محاولة إقناعها أن حضورها لن يسرها، بل سيحبطها قطعا ، و راح جدي يثني على محاولتي تلك ،قائلا أنني طفلة طيبة إذ أراعي مشاعر أمي ،و لا أريد لها أن تحزن ،و تبجّحت لبعض الوقت لذلك، حتى قطعت أمي علي زهوي إذ دفعت مزلاج الباب بغضب وأصرت حازمة أنها لن تفوت دعوة الغد أبدا.
حول مائدة الطعام المربعة كانت جدتي بزيها التقليدي الجميل ،و تصفيفة شعرها الجذابة ترتشف الشاي برقي، بينما رتبت أمي أطباق الطعام البسيطة بانتظار انضمام بقية أفراد أسرتي و نضوج العشاء، فجلست مهمومة مكسورة الخاطر تحمل يدي الصغيرتين خداي الممتلئان، فراحت أختي جاكو في إشفاق تسألني عمّا يشغل بالي ، فسألتها عن حصتها في موعد اليوم المفتوح غدا ، لتخبرني أنها ستكون بحصة الرسم ، فزاد همّي هما و أثاقل خداي على اليدين و تمنيت لو استطعنا تبادل الحصص ، فأنا بارعة في الرسم ،و سأبلي حسنا، و سأرفع رأس أمي إذاك. ...تنهدت بعمق بعد أن زدت بلوتي بأخرى أن حسدت أختي، فهي نشيطة ذكية جميلة مثابرة مجتهدة ومحبوبة ..........عكسي تماما...وستتدبر أمرها بأحسن ما يرام في كل الحصص.
حثّت أمي الخطى تحمل صينية بين يديها عليها أطباق شتى من الطعام، ولكنني انشغلت عن الإفتتان به بهمّي... مشغولة أنا بيوم غد وما سألاقيه من خزي حين ألبس أمي ثوب العار أمام باقي الأمهات.
قالت أختي ببراءة وقد جمعت يديها في أدب: أمي، ستكون الحصة الخامسة مفتوحة للأولياء غدا
أردفت في حيرة: وأنا أيضا.
تدخلت جدتي: كيف يجتمعان في ذات الوقت؟
لمعت عيناي كالثعلب حينها ورحت أربّت على كتف أختي مدّعية أنني المضحية العظيمة، إذ سأقدم أمي إليها كاملة لتحضر حصتها، متخلية بهذا عن شرف حضورها معي، ولكن أختي تفطنت لي واتهمتني جهارا ليلا أنني أراوغ ...وزاد إصرار أمي على حضور حصتي وحذرتني بشدة من إحراجها.
التحق جدي يتبعه أبي بنا مستجيبين لنداء البطن و العائلة ،و لكنني سبقت أبي إلى لقمته اذ التففت حوله كالثعبان لإقناعه بإثناء أمي عن حضور حصتي ، و لكنه لم ير مشكلة في ذلك ، و إذ كان من الضروري أن أوجد المشكلة ، فقد شرحت له أنني سأحرج الجميع إن هي أصرت على الحضور ، و لكنه لسوء طالعي لم يمانع بذلك ، فرحت أعمل ما أوتيت من ذكاء كي أدفعه لصد أمي ، و كما الشيطان يوسوس للإنسان ، فقد صورت له أن أمي ستشتري مجعد الشعر و أدوات الزينة و ملابس فاخرة ، و ستبذر ما يكد لجمعه من مال لأجل دعوة الغد ، لعلها تشتري خاتما باهض الثمن .
حين سمع أبي قصة الخاتم، غلى الدم بعروقه وانتفض، ولكن أختي غفرالله لها، اطفأت النيران التي أوقدت بجهد، حين ادعت أنني أراوغ.
اقترح جدي الحبيب في تطوع خيري للغاية أن يحضر بدلا عن أمي، وهكذا يمكنه مساعدتي إن احتجت للعون، فلففت يدي حول ذراع منقذي بكل حب مرحبة بالفكرة الحكيمة والرأي السديد، وراح جدي يحلق بخياله فوق السحاب سعيدا بصورة البطل المنقذ لحفيدته، غير أن أمي قطعت علينا متعة الخيال إذ زاد إصرارها على الحضور أكثر، فلم يجد جدي بدّا من التراجع فوعدني بتمثيل الدور بعد غد.
- ولكنك لن تكون ذا نفع حينها ...قلت ذلك في بلادة جرحت مشاعر جدي وغيرت ملامح وجهه السعيد فانطفأ نور وجهه وانزوى في مكانه بصمت.
حل اليوم الموعود، وامتلأت ساحة المدرسة بضوضاء الأطفال والكبار، ورحت في قلق أحدث صديقتي تامي أن أمي ستحضر حتما رغم رجائي إياها ألا تفعل وكانت –مثلي – قلقة بشأن حضور أبيها.
صادفنا هاناو أمام باب الفصل بحلته البهية: بدلة وحذاء وربطة عنق بيض، فراح يبارك لنا بحسد حضور أوليائنا بهذا اليوم، وبادلناه الحسد لعدم حضور والديه، فهما غائبان فاستمرار بسبب التجارة خارج البلاد.
أعلن المعلم بدأ حصة الرياضيات، وكنت جالسة من فرط الخوف والقلق كفوهة بركان يغلي ويكتم غيضه ...ألتفت بين الفينة والأخرى فلا أرى أمي بين الأولياء الهامسين المبتهجين، فيخف ما أعانيه ثم أتذكر إصرارها بالأمس، فينقبض قلبي وأعجز عن الانبساط والتفكير بغير شبح أمي الغاضب المحرج.
قال المعلم أننا سنراجع ما تعلمناه بالأمس حول ضرب الكسور، عظيم... بدأ الدرس وتأخرت أمي ... لعلها فهمت قصدي وامتنعت عن إهانة نفسها أمام الأولياء.
تنفست الصعداء، وارتاح قلبي المسكين، وخلتها ساعة الفرج والراحة ...رفعت خديّ الثقيلين بين كفي إيذانا بالسفر بخيالي إلى عوالم أخرى بعيدة عن الفصل وعالم الرياضيات البغيضة.
التفت يمينا على وجه تحريك محرك الأحلام من خلال نافذة الفصل، وإذ بقلبي يصعق لرؤية أمي بالخارج تطل من النافذة، تملأ وجهها إيحاءات مبهمة ...اعتدلت في جلستي ورحت أركز على تعابير وجهها بدلا من التركيز على تعليمات المعلم.
بدأت أمي تشير إلى بطرف سبّابتها باتجاه الأسفل، لأدرك أنني أحمل كتاب الجغرافيا بين يدي بدل كتاب الرياضيات ...كانت غاضبة جدا، وكنت خائفة جدا ...بدلت الكتابين وكلي أمل أن أتجاوز هذه الورطة قريبا...وعليّ التعويض بسرعة
كتب المعلم على السبورة الخضراء العريضة :3/4.2/6
وبكل تفاؤل وثقة سأل الجميع عن الإجابة الصحيحة ...ولسوء طالعي، بدا أنهم جميعهم يعرفونها سواي، أيد لا ترحم، ترتفع بكل فخر، وأصوات تتعالى في تنافس قوي شرس ...ليت الأرض تنتشق فتبتلعني، أو أختفي بريح تائهة إلى أقاصي الأرض، بعيدا عن أجواء الفصل، وعيني أمي الرقيبتين على منذ اللحظة الأولى لبداية الحصة!
نطقت جاكاراكي: معلمي، ياماني مريض، يقول إن معدته تؤلمه.
يا لحظه! نجا بجلده. ولعله خطط لهذا من قبل، فقد رأيته يتناول حلواه في مطعم المدرسة بسرعة كبيرة، وهو يعرف أن ذلك سيشعره بالمغص لاحقا...ليتني فعلتها مثله ولجأت إلى غرفة التمريض ساعة حصة الرياضيات، فأفوز كما فاز.
فكرت حينها أن أعوض على نفسي فأجعلها مريضة، كي تحنو عليّ أمي وتتجاوز عنّي ...سأتناول السمك النيء مع بعض الكريما، سيكون خليطا مقرفا وإنجازا عظيما...سرحت في الفكرة المقززة قليلا فقط، وإذ بعيني تصادفان عينا أمي الناريتين فخفضتهما بانكسار وخوف.
كرر المعلم سؤاله بلطفه المعتاد، بخصوص الكسر المعلق على السبورة منذ دهر تقريبا، ورفع الكل يده ووقع الاختيار على صديقتي تامي، والتي أحرجها أبوها بالتقاط صورة لها للذكرى، فضحك التلاميذ من ذلك وأحرجت صديقتي حد الغرق في العرق من ذلك، وامتنعت عن التوجه نحو السبورة.
نسيت مأزقي لثوان، ورحت أضحك من موقف صديقتي نامي، لحين لمحت وجه أمي تعلوه سحابة من غضب ونار، وهي تشير لي بالوقوف حالا لحل المسألة فرفعت يدي مرتبكة وكلي أمل ألا تميز يدي بين الأيادي...ولكن، لا، لما عليه أن يختارني دونا عن الكل؟
بدت الطريق طويلة وشاقة بين مقعدي والسبورة، جررت فيها جسدي المثقل بالخوف والخيبات الأكيدة ... فكرت قليلا وأعطيت أول إجابة تبادرت إلى ذهني. وابتسمت سعيدة، فالأمر بالنهاية كان أبسط ممّا توقعت ...عدت أدراجي إلى مقعدي وعيناي لا تزالان معلقتين بملامح أمي العجيبة.
قال المعلم أن إجابتي قاربت الصحة، وذلك يعني أن إجابتي غير صحيحة، لكنه أسلوبه اللطيف، الذي يتحاشى الجراح ...ضحك التلاميذ ملء فيهم وأطالوا، ولم تزل عينا أمي الغاضبين تخاصمانني وتتوعدانني بالكثير.
اختار معلمي هامازاكي، ذاك البهلوان الأحمق، كيف يعرف الإجابة ولا أعرفها أنا؟ تكمش وجهي غضبا وعارا أن سارع هامازاكي إلى السبورة في همة ونشاط ملوحا أنه يمتلك الإجابة الاكيدة.
وقف كعادته محركا سائر أعضاء جسده بطريقة مثيرة للضحك ،و قال أن فكرة الكسر تدور حول النص ...كلمات لا معنى لها، مرفوقة بحركات مجنونة ، جعلت كل الناظرين إليه يهشون ، حتى أمي العصبية رأيتها تضحك من تصرفه ،و كأنها أحبت ذلك منه، إذ سرى عنها و خفف ما كانت تجده بسببي ... حتى المعلم ضحك و قال أن إجابته قريبة من الصحة ،فرد هامازاكي أن قربها يكفيه، و لم يمتعض و لم ينزعج و لم يخف و لم يقلق...و راح يطيل في عرض حركاته و تهريجه ...كبير و مضحك ، قالت صديقتي نامي ، لكنني حسدته حقا على سلاسته و تفاعل الكل معه و قدرته على الخروج من أي موقف صعب بحركات سهلة .
عرض المعلم على السبورة كسرا آخر أطول وأعقد من سابقه، وسأل عمن يملك الحل؟
قلت في نفسي أنه اختارني منذ قليل، وعلى الأرجح أنه لن يفعل مرة أخرى.
جمعت كل ما أملك من قوة وشجاعة وثبات رأي، وأخرجت يدي من أعماااق الأرض ورفعتها في ثقة وحزم، كي أثبت لأمي أنني أبذل كل جهدي ولست الفتاة الكسولة الشاردة التي تظن...ولسوء طالعي، كانت يدي الوحيدة المرتفعة وسط جمع الأيادي المحتشمة الرصينة...ودارت الرؤوس كلها نحوي وسال العرق باردا على ظهري
قال المعلم أنها فرصتي للتعويض ...أي ذنب جنيت كي أقع في شراك نفسي في كل مرة؟
كانت القهقهات هنا وهناك، ونظرات أمي المتوسلة الغاضبة تخلق بداخلي مزيدا من التوتر والفوضى والفزع، ورحت أقطع ذات المسافة الطويييلة جدا من أعماق مقعدي إلى أعالي المسطبة، ووقفت هناك أراقب الأعداد تهتز وترقص في بهجة وتحد صارخين، وضحك الجميع سرا وعلنا من عجزي وما أنا فيه، ثم خطر لي خاطر لطيف، وحل مناسب للجميع، وحتما سيروق أمي الثائرة هناك، ومعلمي وباقي المتفرجين ...سأقلد هامازاكي المهرج، كي أنجو من الحرج والعتاب والعقاب.
واستدرت أمام التلاميذ والأولياء وأمي، وحركت جسدي محاكاة لهامازاكي وقلت إن إجابتي كافية جدا.
لن أنسى الصدمة التي ارتسمت على محيا أمي، حتى وقعت أرضا من فرط الحرج وسط أنغام غير متجانسة من الضحك، فتسمرت بمكاني وعرفت أنني فوتّ على نفسي كل فرصة لتعويض ما فات، وأن أمي لبست ثوب العار بسببي وتمنت كلتانا لو أنها ماتت قبل رؤية كل هذا!
جلست بمكاني وتحولت خلالها لتمثال أجوف، حتى سمعت المعلم وهو يعلن عن فوزي بمسابقة الرسم، وقدم لي شهادة مكتوبة بذلك، فحثثت الخطى نحوه مسرورة وسط تصفيق حار، واستلمتها رفقة تصوير والد نامي للذكرى، وكلي فخر وسعادة، فذاك حتما سيعوض كل ما فات، وسيرفع رأسي، وستغفر لي أمي زلاتي وستفرح بإنجازي وتعتز بي.
التفت نحو النافذة لأرى وجه أمي، ولخيبتي وسوء حظي، كانت قد غادرت المكان ولم تشهد تتويجي والاحتفاء بي.
مساء في البيت، حيث كنا نجتمع بانتظار العشاء، جلست أتباهى بشهادتي، يحفزني جديّ ويتنبآن لي بمستقبل فني زاهر في المستقبل، وذلك أسعدني لأنه يعني عدم جدوى الذهاب للمدرسة، لكن أمي قطعت عليّ أحلامي اللذيذة كالعادة وأمرتني بعدم الاغترار بنفسي، والتركيز على دراستي بدلا عن ذلك، ولكنها مدحتني قليلا بعد رجاء جدي الحبيب، وكثيرا في غيابي حين ذهبت لأستحم مع أبي.
مضى اليوم عصيبا وانتهى سعيدا مع شهادة شرفية وحمام دافئ يرخي الفكر والأعصاب والعضلات.
بالواقع لا أحب المدرسة كثيرا لأن المعلم يفرض علينا واجبات كثيرة وأنا لا أحب الواجبات لأنني لا أحب إرهاق نفسي.
اليوم وقف معلمي في تواضع كالعادة، وأطلعنا على أسوء خبر على الإطلاق: غدا يوم الفصل المفتوح.
قفز الأطفال في فرح وزهو، فغدا كلّ سيبرز مواهبه وقدراته أمام ذويه ...غدا يوم التفاخر والتباهي أو الانكسار والتدني،" سيمضي ثقيلا ومخز بالنسبة لي "، همست لصديقتي تامي.
قال المعلم أنه علينا تخيل أهالينا كنوع من الخضار لتفادي الشعور بالقلق من حضورهم ورقابتهم -ربما قرع وباذنجان-فهاج الصف كله وماج، وسرعان ما تخيلت ذلك بدوري ...أمي برأس قرع كبير، ولم أمسك نفسي من الضحك كسائر الصف.
في طريق العودة إلى البيت، كنت أحمل هما لا يطاق، ورحت أحرث الأرض في تمايل، يمنة ويسرة، وأملي الوحيد ألا أصادف أمي بالبيت، وبالكاد فتحت الباب وهمست كالعادة إيذائنا بوصولي، وإذ بأمي تظهر لي كالشبح مرتدية مئزرها الأبيض، ولست أدري لماذا تمنيت ألا أجدها، رغم أن وجودها بالبيت يوميا أمر محتم.
خطرت ببالي حينها أن أدعو جدي للحضور بدلا عنها، هكذا لن أشعر بالحرج فبيني وبين جدي توافق كبير ولن يغضب مني إن رأى ما يخيب ظنه وقد يساعدني أو يتستر عليّ.
تسللت إلى غرفته، وكان حينها يتربع الأرض ويكتب شيئا ما على الورق بينما يغط في نوم عميق، حد الشخير ...أيقظته برقة وحمت حوله كقط يتسول الطعام، وجلست قربه أتمسح بوجهي على ذراعه، وأخبرته أنني أريد منه خدمة.
ببديهته، فهم جدي ما لم أعنه ... ذلك جدي الحبيب ، يفهم ما أريد قبل أن تفهم نفسي ذلك ،و حين رأت عيناي كيس النقود ، نسيت ما كنت أريد و سررت بظنه بي و أقبلت على الين أقبله و أشكر جدي عليه بحرارة ...و قبل أن أهديه قبلة الشكر هو الآخر دخلت أمي علينا كالبرق ثم أرعدت حين علمت بدعوة اليوم المفتوح من إحدى جاراتنا ،و سألتني عن سبب إخفاء ذلك عنها فلم يكن هناك بد من إخبارها برغبتي بحضور جدي بدلا عنها ،لأنني لست ماهرة بالرياضيات و حتما ستشعر بالخجل من أدائي أمام باقي الأولياء ، لكنها بدل تفهم الأمر، قالت أن أدائي سيتحسن بالمراجعة ، فرردت عليها بصوت واحد مع جدي ملوحين باليد نفيا أنه أمر محال ، ثم أردفت محاولة إقناعها أن حضورها لن يسرها، بل سيحبطها قطعا ، و راح جدي يثني على محاولتي تلك ،قائلا أنني طفلة طيبة إذ أراعي مشاعر أمي ،و لا أريد لها أن تحزن ،و تبجّحت لبعض الوقت لذلك، حتى قطعت أمي علي زهوي إذ دفعت مزلاج الباب بغضب وأصرت حازمة أنها لن تفوت دعوة الغد أبدا.
حول مائدة الطعام المربعة كانت جدتي بزيها التقليدي الجميل ،و تصفيفة شعرها الجذابة ترتشف الشاي برقي، بينما رتبت أمي أطباق الطعام البسيطة بانتظار انضمام بقية أفراد أسرتي و نضوج العشاء، فجلست مهمومة مكسورة الخاطر تحمل يدي الصغيرتين خداي الممتلئان، فراحت أختي جاكو في إشفاق تسألني عمّا يشغل بالي ، فسألتها عن حصتها في موعد اليوم المفتوح غدا ، لتخبرني أنها ستكون بحصة الرسم ، فزاد همّي هما و أثاقل خداي على اليدين و تمنيت لو استطعنا تبادل الحصص ، فأنا بارعة في الرسم ،و سأبلي حسنا، و سأرفع رأس أمي إذاك. ...تنهدت بعمق بعد أن زدت بلوتي بأخرى أن حسدت أختي، فهي نشيطة ذكية جميلة مثابرة مجتهدة ومحبوبة ..........عكسي تماما...وستتدبر أمرها بأحسن ما يرام في كل الحصص.
حثّت أمي الخطى تحمل صينية بين يديها عليها أطباق شتى من الطعام، ولكنني انشغلت عن الإفتتان به بهمّي... مشغولة أنا بيوم غد وما سألاقيه من خزي حين ألبس أمي ثوب العار أمام باقي الأمهات.
قالت أختي ببراءة وقد جمعت يديها في أدب: أمي، ستكون الحصة الخامسة مفتوحة للأولياء غدا
أردفت في حيرة: وأنا أيضا.
تدخلت جدتي: كيف يجتمعان في ذات الوقت؟
لمعت عيناي كالثعلب حينها ورحت أربّت على كتف أختي مدّعية أنني المضحية العظيمة، إذ سأقدم أمي إليها كاملة لتحضر حصتها، متخلية بهذا عن شرف حضورها معي، ولكن أختي تفطنت لي واتهمتني جهارا ليلا أنني أراوغ ...وزاد إصرار أمي على حضور حصتي وحذرتني بشدة من إحراجها.
التحق جدي يتبعه أبي بنا مستجيبين لنداء البطن و العائلة ،و لكنني سبقت أبي إلى لقمته اذ التففت حوله كالثعبان لإقناعه بإثناء أمي عن حضور حصتي ، و لكنه لم ير مشكلة في ذلك ، و إذ كان من الضروري أن أوجد المشكلة ، فقد شرحت له أنني سأحرج الجميع إن هي أصرت على الحضور ، و لكنه لسوء طالعي لم يمانع بذلك ، فرحت أعمل ما أوتيت من ذكاء كي أدفعه لصد أمي ، و كما الشيطان يوسوس للإنسان ، فقد صورت له أن أمي ستشتري مجعد الشعر و أدوات الزينة و ملابس فاخرة ، و ستبذر ما يكد لجمعه من مال لأجل دعوة الغد ، لعلها تشتري خاتما باهض الثمن .
حين سمع أبي قصة الخاتم، غلى الدم بعروقه وانتفض، ولكن أختي غفرالله لها، اطفأت النيران التي أوقدت بجهد، حين ادعت أنني أراوغ.
اقترح جدي الحبيب في تطوع خيري للغاية أن يحضر بدلا عن أمي، وهكذا يمكنه مساعدتي إن احتجت للعون، فلففت يدي حول ذراع منقذي بكل حب مرحبة بالفكرة الحكيمة والرأي السديد، وراح جدي يحلق بخياله فوق السحاب سعيدا بصورة البطل المنقذ لحفيدته، غير أن أمي قطعت علينا متعة الخيال إذ زاد إصرارها على الحضور أكثر، فلم يجد جدي بدّا من التراجع فوعدني بتمثيل الدور بعد غد.
- ولكنك لن تكون ذا نفع حينها ...قلت ذلك في بلادة جرحت مشاعر جدي وغيرت ملامح وجهه السعيد فانطفأ نور وجهه وانزوى في مكانه بصمت.
حل اليوم الموعود، وامتلأت ساحة المدرسة بضوضاء الأطفال والكبار، ورحت في قلق أحدث صديقتي تامي أن أمي ستحضر حتما رغم رجائي إياها ألا تفعل وكانت –مثلي – قلقة بشأن حضور أبيها.
صادفنا هاناو أمام باب الفصل بحلته البهية: بدلة وحذاء وربطة عنق بيض، فراح يبارك لنا بحسد حضور أوليائنا بهذا اليوم، وبادلناه الحسد لعدم حضور والديه، فهما غائبان فاستمرار بسبب التجارة خارج البلاد.
أعلن المعلم بدأ حصة الرياضيات، وكنت جالسة من فرط الخوف والقلق كفوهة بركان يغلي ويكتم غيضه ...ألتفت بين الفينة والأخرى فلا أرى أمي بين الأولياء الهامسين المبتهجين، فيخف ما أعانيه ثم أتذكر إصرارها بالأمس، فينقبض قلبي وأعجز عن الانبساط والتفكير بغير شبح أمي الغاضب المحرج.
قال المعلم أننا سنراجع ما تعلمناه بالأمس حول ضرب الكسور، عظيم... بدأ الدرس وتأخرت أمي ... لعلها فهمت قصدي وامتنعت عن إهانة نفسها أمام الأولياء.
تنفست الصعداء، وارتاح قلبي المسكين، وخلتها ساعة الفرج والراحة ...رفعت خديّ الثقيلين بين كفي إيذانا بالسفر بخيالي إلى عوالم أخرى بعيدة عن الفصل وعالم الرياضيات البغيضة.
التفت يمينا على وجه تحريك محرك الأحلام من خلال نافذة الفصل، وإذ بقلبي يصعق لرؤية أمي بالخارج تطل من النافذة، تملأ وجهها إيحاءات مبهمة ...اعتدلت في جلستي ورحت أركز على تعابير وجهها بدلا من التركيز على تعليمات المعلم.
بدأت أمي تشير إلى بطرف سبّابتها باتجاه الأسفل، لأدرك أنني أحمل كتاب الجغرافيا بين يدي بدل كتاب الرياضيات ...كانت غاضبة جدا، وكنت خائفة جدا ...بدلت الكتابين وكلي أمل أن أتجاوز هذه الورطة قريبا...وعليّ التعويض بسرعة
كتب المعلم على السبورة الخضراء العريضة :3/4.2/6
وبكل تفاؤل وثقة سأل الجميع عن الإجابة الصحيحة ...ولسوء طالعي، بدا أنهم جميعهم يعرفونها سواي، أيد لا ترحم، ترتفع بكل فخر، وأصوات تتعالى في تنافس قوي شرس ...ليت الأرض تنتشق فتبتلعني، أو أختفي بريح تائهة إلى أقاصي الأرض، بعيدا عن أجواء الفصل، وعيني أمي الرقيبتين على منذ اللحظة الأولى لبداية الحصة!
نطقت جاكاراكي: معلمي، ياماني مريض، يقول إن معدته تؤلمه.
يا لحظه! نجا بجلده. ولعله خطط لهذا من قبل، فقد رأيته يتناول حلواه في مطعم المدرسة بسرعة كبيرة، وهو يعرف أن ذلك سيشعره بالمغص لاحقا...ليتني فعلتها مثله ولجأت إلى غرفة التمريض ساعة حصة الرياضيات، فأفوز كما فاز.
فكرت حينها أن أعوض على نفسي فأجعلها مريضة، كي تحنو عليّ أمي وتتجاوز عنّي ...سأتناول السمك النيء مع بعض الكريما، سيكون خليطا مقرفا وإنجازا عظيما...سرحت في الفكرة المقززة قليلا فقط، وإذ بعيني تصادفان عينا أمي الناريتين فخفضتهما بانكسار وخوف.
كرر المعلم سؤاله بلطفه المعتاد، بخصوص الكسر المعلق على السبورة منذ دهر تقريبا، ورفع الكل يده ووقع الاختيار على صديقتي تامي، والتي أحرجها أبوها بالتقاط صورة لها للذكرى، فضحك التلاميذ من ذلك وأحرجت صديقتي حد الغرق في العرق من ذلك، وامتنعت عن التوجه نحو السبورة.
نسيت مأزقي لثوان، ورحت أضحك من موقف صديقتي نامي، لحين لمحت وجه أمي تعلوه سحابة من غضب ونار، وهي تشير لي بالوقوف حالا لحل المسألة فرفعت يدي مرتبكة وكلي أمل ألا تميز يدي بين الأيادي...ولكن، لا، لما عليه أن يختارني دونا عن الكل؟
بدت الطريق طويلة وشاقة بين مقعدي والسبورة، جررت فيها جسدي المثقل بالخوف والخيبات الأكيدة ... فكرت قليلا وأعطيت أول إجابة تبادرت إلى ذهني. وابتسمت سعيدة، فالأمر بالنهاية كان أبسط ممّا توقعت ...عدت أدراجي إلى مقعدي وعيناي لا تزالان معلقتين بملامح أمي العجيبة.
قال المعلم أن إجابتي قاربت الصحة، وذلك يعني أن إجابتي غير صحيحة، لكنه أسلوبه اللطيف، الذي يتحاشى الجراح ...ضحك التلاميذ ملء فيهم وأطالوا، ولم تزل عينا أمي الغاضبين تخاصمانني وتتوعدانني بالكثير.
اختار معلمي هامازاكي، ذاك البهلوان الأحمق، كيف يعرف الإجابة ولا أعرفها أنا؟ تكمش وجهي غضبا وعارا أن سارع هامازاكي إلى السبورة في همة ونشاط ملوحا أنه يمتلك الإجابة الاكيدة.
وقف كعادته محركا سائر أعضاء جسده بطريقة مثيرة للضحك ،و قال أن فكرة الكسر تدور حول النص ...كلمات لا معنى لها، مرفوقة بحركات مجنونة ، جعلت كل الناظرين إليه يهشون ، حتى أمي العصبية رأيتها تضحك من تصرفه ،و كأنها أحبت ذلك منه، إذ سرى عنها و خفف ما كانت تجده بسببي ... حتى المعلم ضحك و قال أن إجابته قريبة من الصحة ،فرد هامازاكي أن قربها يكفيه، و لم يمتعض و لم ينزعج و لم يخف و لم يقلق...و راح يطيل في عرض حركاته و تهريجه ...كبير و مضحك ، قالت صديقتي نامي ، لكنني حسدته حقا على سلاسته و تفاعل الكل معه و قدرته على الخروج من أي موقف صعب بحركات سهلة .
عرض المعلم على السبورة كسرا آخر أطول وأعقد من سابقه، وسأل عمن يملك الحل؟
قلت في نفسي أنه اختارني منذ قليل، وعلى الأرجح أنه لن يفعل مرة أخرى.
جمعت كل ما أملك من قوة وشجاعة وثبات رأي، وأخرجت يدي من أعماااق الأرض ورفعتها في ثقة وحزم، كي أثبت لأمي أنني أبذل كل جهدي ولست الفتاة الكسولة الشاردة التي تظن...ولسوء طالعي، كانت يدي الوحيدة المرتفعة وسط جمع الأيادي المحتشمة الرصينة...ودارت الرؤوس كلها نحوي وسال العرق باردا على ظهري
قال المعلم أنها فرصتي للتعويض ...أي ذنب جنيت كي أقع في شراك نفسي في كل مرة؟
كانت القهقهات هنا وهناك، ونظرات أمي المتوسلة الغاضبة تخلق بداخلي مزيدا من التوتر والفوضى والفزع، ورحت أقطع ذات المسافة الطويييلة جدا من أعماق مقعدي إلى أعالي المسطبة، ووقفت هناك أراقب الأعداد تهتز وترقص في بهجة وتحد صارخين، وضحك الجميع سرا وعلنا من عجزي وما أنا فيه، ثم خطر لي خاطر لطيف، وحل مناسب للجميع، وحتما سيروق أمي الثائرة هناك، ومعلمي وباقي المتفرجين ...سأقلد هامازاكي المهرج، كي أنجو من الحرج والعتاب والعقاب.
واستدرت أمام التلاميذ والأولياء وأمي، وحركت جسدي محاكاة لهامازاكي وقلت إن إجابتي كافية جدا.
لن أنسى الصدمة التي ارتسمت على محيا أمي، حتى وقعت أرضا من فرط الحرج وسط أنغام غير متجانسة من الضحك، فتسمرت بمكاني وعرفت أنني فوتّ على نفسي كل فرصة لتعويض ما فات، وأن أمي لبست ثوب العار بسببي وتمنت كلتانا لو أنها ماتت قبل رؤية كل هذا!
جلست بمكاني وتحولت خلالها لتمثال أجوف، حتى سمعت المعلم وهو يعلن عن فوزي بمسابقة الرسم، وقدم لي شهادة مكتوبة بذلك، فحثثت الخطى نحوه مسرورة وسط تصفيق حار، واستلمتها رفقة تصوير والد نامي للذكرى، وكلي فخر وسعادة، فذاك حتما سيعوض كل ما فات، وسيرفع رأسي، وستغفر لي أمي زلاتي وستفرح بإنجازي وتعتز بي.
التفت نحو النافذة لأرى وجه أمي، ولخيبتي وسوء حظي، كانت قد غادرت المكان ولم تشهد تتويجي والاحتفاء بي.
مساء في البيت، حيث كنا نجتمع بانتظار العشاء، جلست أتباهى بشهادتي، يحفزني جديّ ويتنبآن لي بمستقبل فني زاهر في المستقبل، وذلك أسعدني لأنه يعني عدم جدوى الذهاب للمدرسة، لكن أمي قطعت عليّ أحلامي اللذيذة كالعادة وأمرتني بعدم الاغترار بنفسي، والتركيز على دراستي بدلا عن ذلك، ولكنها مدحتني قليلا بعد رجاء جدي الحبيب، وكثيرا في غيابي حين ذهبت لأستحم مع أبي.
مضى اليوم عصيبا وانتهى سعيدا مع شهادة شرفية وحمام دافئ يرخي الفكر والأعصاب والعضلات.