قصة قصيرة: "رسائل س.ح"
أرخى سمير جسده مستلقيا على السرير، كأنه يحاول بطريقة ما أن يجعل الأفكار تنساب إليه من سقف الغرفة، منذ مدة وهو يشعر بانقباض في صدره، كأنه يوشك على الغرق، هموم الحياة قد أرهقته، وهو لازال يفكر في طريقة لنسيان خطبته التي انتهت بكارثة..
رررن.. رررن... رررن
هبط الدرج بكسل شديد، ولمّا ترجل عند الباب لاحظ وجود مظروف أصفر.. فتح الباب وأطل برأسه، كان يتوقع رؤية ساعي بريد، لكنه تفاجأ عندما لم ير أحدًا!
أخذ المظروف وهو يصعد الدرج كما هبطه وهو يدندن:
أحبَّها وهي تخفي حبَّه أدبا
وظنها جهلت نجواه فانتحبا
يشكو إليها تباريح الغرام فلا
تجيبه فيبيت الليل مكتئبا
حتى إذا خاف أن يقضي أسىً وجوىً
أمضى إليها كتاباً فيه قد كتبا
حبيبة القلب ما هذا الجفاء وقد
أبكَى أليمُ بكائي الترك والعربا
فرد الورقة أمامه، وإذا بخط أنيق يطالعه على استحياء، كأنه يخشى أن تمتد إليه أعين الناس، فتلتهمه أو تَنخسف به سطور الورقة فتجعله كأن لم يكن. وشرع يقرأ ما في الكتاب بعينين تلمعان غير مصدقتين ما تجدانه من الكلام الحلو.
"قد ترى تصرفي هذا ضربًا من الجنون والغباء يا عزيزي، لكنك يا سيدي قد سلبت عقلي مذ رأيتك، فما عدت أنام الليل إلا النزر اليسير منه، ثم إني أضحيت أهيم على وجهي أينما اتفق، وحين أعود إلى رشدي أجدني قد أصبحت في مكان لا عهد لي به. ثم أنكص عائدة إلى ما رحت لأجله، فلا أجدني إلا وأنا في حيّ غريب لم أزره من قبل أو أمرّ به.
وقد تربصت لك أياما عرفت عنوانك، وسألت عنك الجيران فأخبروني اسمك، ثم إني غدوت كلما أردت نطق اسم رجل، فإن لساني لا يأتي إلا على حروف اسمك كأن ما عادت في هذه الدنيا حروف غير حروفك، وما أخال إلا أنّ لعنة ما نزلت عليّ فأفقدتني صوابي.
ورغم هذا فإني لا أدري كيف أقف أمامك يا عزيزي، فأخشى ألا يعجبك شكلي، أو تسوؤك منّي خليقة، فتهجرني وتتركني كقطعة بسكويت، أذوب في صمت وأنا غارقة في أحزاني.
المخلصة: س. ح. "
أعاد قراءتها مرات ومرات، هي لم تشر لاسمه، أتراها تقصده؟!
تكورت داخله الأسئلة، لكن ذلك لم يمنع نظرة ثقة أن تبرق في المرآة بزهو وفخر، ثم ارتدى أجمل ملابسه، وضع من عطره الفاخر، وقد زغردت عصافير الشوق بين جنبيه، وخرج يتمطى الشارع يرى في كل أنثى تمر صوبه مجهولته العاشقة، التي لم تكتب اسمها علنا، ورمزت له بـ س.ح: "سنسونة الحلوة" هكذا توقع اسمها!
لكن لم يتبد له أي خيال لامرأة تبادله شغف الانتظار، فكل من مرت به كانت إما تركز وشاشة هاتفها أو تحاول تعديل هندامها أو مشيتها. لم ير أنه مركز اهتمام إحداهن.. هذا ما اتضح له لكنه صك أسنانه منافحا عن ذاته، لا شك أن خجلها منعها الظهور أمامه، لم يقابل في طريق العودة إلا بعض المراهقين من جيرانه، عاد للمنزل فوجد مظروفا آخر ينتظره حمله بلهفة:
"عزيزي، هكذا كتبت الرسائل قبلا وهكذا أبدؤها، كأنما هي امتداد للأمس.. لعل المعزة شعور فوق إرادتنا، لا نملك أن نمنعه كما الكتابة، أكتب أو لا أكتب، تشبه أن أكون أو لا أكون كينونتي حرف يتسلق عتبة الشعور، يمسح شحوب الأمكنة حولي لينقل أحاسيسي التي لا أملك إلا البوح بها، كأننا على ضفتين بيننا بحر هائج لا أدري ما يحمله طالما لم أشق عبابه، لكن ضفتي تنشد للحب، وتردد أغانيه تلقي أساورها باتجاه الغد الذي يحملنا بين طياته أرأيت ما أجمل "نا" حين تجمع قلبين يسبحان باسم الحب، وما أبعد "ني" حين أقرفص ووحدتي...!!
قلبي المتقلب صفى على ضفتك، لا يملك أن يعود، وقد عبق الوجد ورائحة عطرك.
المخلصة س.ح"
همهم للحظات كيف تراه ولا يراها وكيف سبل الوصل إليها، تقرئه السلام ولا يجد إلا مظروفًا لم يحمل اسمًا ولا عنوانًا... لا شيء! فقط رسائل! لم تفعلين هذا بي يا سنسونه أيتها الجميله دعي لي عنوانا واضحا فإني أحببت عطر الكلمات وهذا الاهتمام..
سحب الباب واضعا على عتبته رسالته التي كتب عليها:
"سنسونة هكذا أسميتك لا تتركين اسما ولا عنوانا واضحا ترينني ولا أراك، تراسلينني ولا أملك عنوانا لأراسلك، أليست تلك معادلة غير متكافئة!؟"
وخط على المظروف إلى (س.ح)
تبادلا الرسائل على هذا النحو برهة من الزمن إلى أن بلغ الوجد منتهاه لم يكن يريد إلا رؤيتها، لكنها كانت تتملص، وتؤجل الأمر إلى أجل غير محدد، لم يستطع تحمل الأمر فانطلق كمارد دون أن يترك أي رسالة خلفه، عاد لمنزله لم يفتح الرسالة وإنما فتح مسجلا للكاميرا التي علقها أعلى الباب وقد شغف قلبه لرؤية حبيبته لكنه ومن فرط الدهشة لم يتملّك أعصابه، لأنه لما انزوى إلى نافذة القلب لم يشاهد إلا مراهقي الحي أمام الباب وقد علت ضحكاتهم الساخرة...
بقلم: سليمي+ حمزة إزمار.
ملاحظة: أبيات الشعر لأحمد الكاشف