كتاب المساكين هو كتاب بالنسبة لي فلسفي أكثر من كونه كتابا أدبيا، عرض فيه صاحبه فلسفته حول الفقر وكان ذلك على لسان “الشيخ علي” شيخ المساكين، وكما يقول الكاتب فهو شخصية حقيقية وهو رجل يعيش وحده ليس له جيب يمسك درهما، ولا جسد يمسك ثوبا، ولا دار تؤويه.. يجوع فيهبط على أول دار يلقاه، يتناول ما يمسك رمقه، ويدركه النوم فيتوسد ذراعه… هو حليم نفسه، غضوب نفسه، وكذلك هو في الخفة والوقار والعبوس.. وإذا كان الشيخ علي شخصية حقيقة، فإنه من المحال أن يكون هذا الكلام وهذه الفلسفة قد خرجت من فيه رجل من البسطاء -هذا رأيي والله أعلم- إذ أن صاحب هذا الكلام لا يشترط فيه “الفضيلة” فقط؛ وإنما إلى جانب ذلك إلى نظرة عميقة إلى الحياة وإلى النفس الإنسانية (الحكمة).
عندما كنت أسمع عن أسلوب الرافعي المعقد، ما كنت أفهم المقصود بها، وخاصة بعدما قرأت وحي القلم -وهو كما تعلم آخر ما كتبه الرافعي- وكنت أحسب أنها نوع من المبالغة في حقه؛ لأنه وبالرغم من بعض التعقيد الذي لا تخلو منه المقالات المجمعة في “وحي القلم” إلا أنها ليست بذلك التعقيد الذي يعجزك.. بل إني وجدت فيه متعة كبيرة في قراءته، ورؤية عميقة لم أكن أتخيل أن كاتبا عربيا وصل لذلك المستوى، ولو أردت التشبيه لقلت أنه» دوستويفسكي العالم العربي «غير أن كل واحد منهما يحلل الأمور حسب طبيعة مجتمعه وثقافته. وقد كنت مترددا في إطلاق هذا التشبيه؛ لأنها قد لا تكون دقيقة، غير أني استقررت في النهاية على إبقائه، ذلك أنهما إن كانا يختلفان في نوع القضية التي يتناولانها، فأحدها ينفذ إلى عمق النفس البشرية، والآخر ينفذ إلى عمق الظاهرة الاجتماعية من خلال الألم الإنساني، فهما يشتبهان في كون القارئ لهما لا يكاد يفرغ من كتاباتهما حتى يعجب وينبهر بما خطته أقلامهما، بما لهما من نظرة عميقة للأشياء.
أما تجربتي مع “المساكين” فهي مختلفة إلى حد كبير، فالتعقيد الذي وجدته فيه لم يسبق لي أن توقعته؛ وكفاك بيانا أن أقول لك أني كنت أعيد قراءة الفقرة أكثر من خمس مرات أحيانا لأستوعب الفكرة وأربطها بما سبق، وكان ذلك فيه من المشقة مالم أجده في قراءة أي كتاب من قبل، حتى كنت أشعر أحيانا كأني لم اقرأ كتابا في حياتي.. وقد استغرقت حوالي شهر لأكمله، ومع ذلك لم أفهم من الكتاب إلا الشيء اليسير. وطبعا عرفت أي مستوى أنا فيه من اللغة، واكتشفت أني لا أفقه في اللغة والبيان إلا بمقدار حجم بعوضة. وكتابات الرافعي بالفعل تشعرك بالاعتزاز في اللغة، وخاصة إن تبينت كيف يتحكم في معاني اللغة كأنها عجينة بين يديه. ورغم ذلك فأنا أعتقد أن هذا التعقيد جنى على كتابات الرافعي في هذا العصر، فكان جديرا به أن يتوخى ما أمكن التبسيط في البيان؛ لأن المبالغة في البهرجة أفقدت في كثير من الأحيان بريق المعاني.. فهو كان قادرا على تقديم نفس المعنى بشكل لغوي أبسط وأكثر جذباً للقارئ، وأيضاً أكثر اختصاراً. ومسألة الإطالة والإسهاب مزعجة أحيانا، وخصوصا أنك تجد في الغالب عصارة كل المقال في نهايته.. ولا شك أنني أملك فضولا لمعرفة بماذا كان سيرد الرجل على زعمي هذا لو كان حيا!
ألف الرافعي هذا الكتاب أثناء الحرب العالمية الأولى لذلك نجد فيه من خلال مقالاته المتفرقة محاولة للتعبير عن الألم الإنساني الذي يتجلى في صور مختلفة منها الفقر، والجوع، والعشق، والحرب، والجحود.. ولم يقدم هذا الكتاب ليعالج الفقر، بل ليعزي به الفقراء من خلال بيان بعض حكم الله تعالى في الفقر، وفي المقابل تحدث عن الغنى وما قد يكون فيه من بلاء ونقمة ومصائب أو كما يقول في قصة فيكتور ولويز: “كأن القدر لما اختط لها التعاسة رسم هذه الخطة بقلم من ذهب” وهي أقرب إلى العبارة الشائعة في عصرنا “تزوجي رجلا غنيا، فإذا كنت ستعانين فعلى الأقل ستعانين في قصر” – ورغم أن المقصد مختلف وبغض النظر عن رأيي في هذه القولة وشبيهاتها التي تخطف الأبصار حتى إن اقتربت منها وجدتها هباء منثورا- فالرجل عرف كيف يصوغ فلسفته، بل إنه صوّر الفقر حتى في أرفع مستويات الغنى، فقال: “إن أفقر الفقراء ليس هو الذي لا يجد غذاء بطنه، ولكنه الذي لا يستطيع أن يجد غذاء شعوره” ولم يتوقف هنا بل جعل الغني البخيل على مستوى عال من الدناءة والانحطاط فيقول في موضع آخر ” وجاءهم الحرص بهذا المال، أما الطمع فجاءهم بماذا؟ لو قلت بصدأ القلب وهرم النفس ودناءة الطبع، ولو قلت بكل ما في الحشرات من القذر.. لكن المعنى الذي يتلجلج في نفسي أكبر من ذلك كله”.
وبالإجمال يمكنني أن أصنف ما جاء في كتاب المساكين إلى صنفين رئيسيين:
صنف القصص الأخلاقية: وقد وردت في كل من ” مسكينة مسكينة ” وقصة “سحق اللؤلؤة” ونلمس في القصة الأولى معنى قوله تعالى في سورة آل عمران “وتلك الأيام نداولها بين الناس” وفيها تجسيد للإيثار من خلال موقف الطفل تجاه الفتاة، وكذا تجسيد لشح النفس من خلال موقف المرأة الغنية تجاه نفس الفتاة.. أما في القصة الثانية وهي قصة منقولة من رواية لفكتور ولويز -حسبما فهمت- وقد بلغ الرافعي من ذمّ الأغنياء البخلاء في هذه القصة مالم يبلغه في أي فصل آخر-حسب رأيي- ونجد ذلك مثلا في قوله عن الكونت فيكتور” أنه رجل إذا علم أنه سيعطى كتاب أعماله في الآخرة قال: يا ليت صحفه من ورق البنك! وأما وجهه فلو أنزل الله مرآة من السماء فنظر فيها لصدئت من قبح خياله، كصدأ ذلك المال المخزون من ماله” والمعروف أن المرآة لا تصدأ لكن هذا من الأوصاف البليغة التي يطلقها الرافعي من حين لحين، وهي أوصاف تفحم الموصوف بها، فقد بلغ الحرص بهذا الرجل مبلغا عجيبا، حتى أنه لم يتزوج؛ لأن حسب فلسفته تجاه المرأة أن الاقتصاد والمرأة لا يتفقان، إذ أن كل ما قد يجمعه الرجل في حياته قد يبذره على امرأة مغرم بها، فأكثر ما يجمع لهن وأكثر ما ينفق عليهن، هذا أن الرجل في يد المرأة مخلوق ضعيف، وإذا منع عنها شيء، أرضاها في أشياء -وهذا صحيح نسبيا- لكن كما قال الرافعي على لسان الشيخ علي، ما فائدة كلمة حق، يراد بها باطلا!
ثم صنف الحوارات الفلسفية والتأملات: وهي عبارة عن تأملات في الحب، والحرب، والدين، والظلم، والإيمان.. وتشمل بقية الفصول، والحقيقة يصعب كثيرا الإلمام بفلسفته التي عرضها في هذا الكتاب؛ وذلك لتشعبها وتعددها – وأنا لست ممن يحب الإطالة والإسهاب- لكن يمكن القول أنّه من الأمور التي ناقشها هي تنازع البقاء، الذي ينتج عن شح الغني أساسا، فاعتبر أن البخل من بقايا الوثنية القديمة، وإذا لم يكن من بقايا الوثنية، فهو على الأقل ضعف في الإيمان؛ لأن المؤمن الحق يعرف أن الرزق مقسم، فلا يجزع لنازلة ألمت به، وإنما يجزع لذلك من يخاف الدنيا، ومذهب تنازع البقاء عنده مذهب حيواني وبتعبيره: “إن تنازع البقاء مذهب فلسفي بقري لا إنساني؛ فإنها الثيران هي التي تجد من القوة أن تنتطح في المجزرة وتنسى لما هي في المجزرة”.
ومما لفت انتباهي كذلك في هذا الكتاب نظرة الكاتب إلى كلمة “الحظ” فاعتبر أن الناس لا تأتي على ذكر حسن الحظ، إلا إذا رأوا ما عند الآخر من نعمة، والإنسان لا يقنع بل يعتقد أن القدر يجب أن يسير حسب مزاجه، وإلا كان ذلك كله “سوء حظ” وكما يقول هو على طريقته: “يأبى كل أحمق إلا أن يختط لله خطة يبني له عليها مستقبله، فكأنما يريد أن تمشي يد الله في التقدير على أجزاء الصورة في خياله”.
بالنسبة لي كانت هذه التجربة فريدة من نوعها، ورغم كل التعقيد الذي واجهته فإني لست بنادم ولو قدر أنملة، ولو سمحت لي الفرصة في القراءة له ثانية فلن أتردد في ذلك، فقد افتتنت بأسلوبه وانتهى الأمر! أما بالنسبة للذي يريد أن يقرأ له، فإني أنصحه بوحي القلم؛ لأني كما أسلفت أقل تعقيدا، وكأن الرجل في آخر أيامه قرر أن يتخلى عن بعض من أسلوبه المعقد، أو ربما هي التعلم من التجارب السابقة مع القراء، الذين وبلا شك قد تذمروا من تعقيد الأسلوب فقرر النزول قليلا عن ذلك البرج الذي كان يقف عليه.. أما الآن فقد بدأت بالفعل في قراءة كتاب من أجمل الكتب الفكرية التي وقعت بين يدي، وهي للعقاد، وبعده ستكون لي تجربة ثانية مع كل من الجاحظ والمنفلوطي.
بقلم: حمزة إزمار.
في تاريخ: 15 يوليوز 2021.
كتاب المساكين/مصطفى صادق الرافعي.
قوانين المنتدى
لا نشارك الكتب الرقمية هنا، لكي لا نحمل وزر السرقات الأدبية.. من أراد كتابا يبحث عنه.
لا نشارك الكتب الرقمية هنا، لكي لا نحمل وزر السرقات الأدبية.. من أراد كتابا يبحث عنه.
- حمزة إزمار
- مشرف عام
- مشاركات: 1114
- اشترك في: 28 إبريل 2021, 07:13
- مكان: المغرب
- اتصال:
- فراشة سماوية
- عضو ذهبيّ (1500+)
- مشاركات: 1642
- اشترك في: 28 إبريل 2021, 20:09
Re: كتاب المساكين/مصطفى صادق الرافعي.
السلام عليكم أخي حمزة
أضع ردا هنا لأعود للقراءة إن شاء الله.
منذ فترة طويلة و أنا أرى اقتباسات للرافعي
أعجبت بأسلوبه و فكره جدا..
و تشوقت للقراءة له..
لعل مقالك يشعل حماسي اكثر^^
أضع ردا هنا لأعود للقراءة إن شاء الله.
منذ فترة طويلة و أنا أرى اقتباسات للرافعي
أعجبت بأسلوبه و فكره جدا..
و تشوقت للقراءة له..
لعل مقالك يشعل حماسي اكثر^^
- حمزة إزمار
- مشرف عام
- مشاركات: 1114
- اشترك في: 28 إبريل 2021, 07:13
- مكان: المغرب
- اتصال:
Re: كتاب المساكين/مصطفى صادق الرافعي.
طبعا مرحبا بك أختي الفراشة، إن شاء الله أشعل حماسك هههفراشة سماوية كتب: ↑26 يوليو 2021, 14:12 السلام عليكم أخي حمزة
أضع ردا هنا لأعود للقراءة إن شاء الله.
منذ فترة طويلة و أنا أرى اقتباسات للرافعي
أعجبت بأسلوبه و فكره جدا..
و تشوقت للقراءة له..
لعل مقالك يشعل حماسي اكثر^^
- محمد كنجو
- عضو ذهبيّ (1500+)
- مشاركات: 5663
- اشترك في: 29 إبريل 2021, 12:24
Re: كتاب المساكين/مصطفى صادق الرافعي.
السلام عليكم
التقدير والتحية أخي حمزة
مقال تحليلي موفق جدا وجدير بالإهتمام
الرافعي ..لطالما قرأت مقتطفات
مقتضبة من كتبه
و بعد ماقرأته هنا لابد أن اجد وقتا لقراءة كافية بعون الله
التقدير والتحية أخي حمزة
مقال تحليلي موفق جدا وجدير بالإهتمام
الرافعي ..لطالما قرأت مقتطفات
مقتضبة من كتبه
و بعد ماقرأته هنا لابد أن اجد وقتا لقراءة كافية بعون الله
- منيرة
- مشرف عام
- مشاركات: 8560
- اشترك في: 28 إبريل 2021, 03:36
- مكان: الجزائر
Re: كتاب المساكين/مصطفى صادق الرافعي.
حمزة ،احيي شغفك بالمطالعة
أقرأ واكتب مراجعاتك ، ذلك يؤثر ،ثق من ذلك
احسنت ، ماشاء الله عليك ^^
أقرأ واكتب مراجعاتك ، ذلك يؤثر ،ثق من ذلك
احسنت ، ماشاء الله عليك ^^
- حمزة إزمار
- مشرف عام
- مشاركات: 1114
- اشترك في: 28 إبريل 2021, 07:13
- مكان: المغرب
- اتصال:
Re: كتاب المساكين/مصطفى صادق الرافعي.
معذرة منكم، لم أرى تعليقاتكم حتى الآن..
نعم، أصبحت أعشق أسلوبه رغم تعقيده.
وللأسف، حاولت شراء كتبه لكن لم أستطع.
ماذا عنك، هل سنحت لك الفرصة لتقرأ له؟
- حمزة إزمار
- مشرف عام
- مشاركات: 1114
- اشترك في: 28 إبريل 2021, 07:13
- مكان: المغرب
- اتصال: