صفحة 1 من 1
فلسفة الكتابة - (رفعت خالد)
مرسل: 27 يونيو 2021, 09:41
بواسطة خالد
أعلم أنّي أكثرتُ الحديث عن الكتابة، ولكن ما حيلتي ؟ فإن مثلي كمثل طفل لمّا يحسن التعبير بعدُ، خرج لمهرجان مليء بالألعاب والمُتع التي تخلب ألباب الصغار، فعبّ من تلك السعادة الغامرة ما استطاع أن يعبّ، ثم عاد ركضا لبيته حتى يحكي لأهله عما رأى وسمع، ولكن أنّى له التعبير ؟ وأين تراه يجد الوصف الذي يسعفه ؟ فيريد لو يخرج لهم قلبه ليروا ما رآه، موثقا بالصوت والصورة.. ولكن هيهات. فيطفق المسكين يتلعثم ويقفز ويصرخ، ليقرب لهم الصورة ما وسعه أن يفعل، والأهل غارقون في ضحكهم، يسخرون من منظره الطريف. فكذلك أجدني لما أعود من عالم الكتابة، على تواضعي وقلة زادي، لا أعرف كيف أصف الذي رأيت، وإنما أجتهد ما استطعت، فأقول – مثلا – أنه مكان أشبه ما يكون ببحيرة طويلة لا نهاية لها، تحفّها الأشجار الباسقات، وماء تلك البحيرة من الصفاء بحيث ترى القاع البعيد تتراقص فوقه الظلال تراقص الأشباح، وأنتَ تنساب فوقه بقاربك، وتحتك تمرق أفواج السمك بسلام، والجو هادئ ساكن، يلفك بهدوئه وسكونه حتى تغدو جزءا لا يتجزأ من ذاك المشهد البديع، وطرفا لا غنى عنه من جمال تلك اللوحة الزاهية، فتلمس بأناملك الماء الهادئ كأنما تلمس الجمال نفسه، وترى وجهك على صفحته كأنما هو وجه روحك ذاتها، فتراه جميلا بلا سكرة من كبر، وتُلفي عقلك متوازنا، مرتب المنطق بلا ذرة من تكلف. ثم تجعل – وأنت على تلك الحال – تصطاد بقصبتك من تلك البحيرة الدافئة، فإذا السمك يخرج في هيأة كلمات.. فيا لجمال تلك البحيرة ويا لغرابتها ! كلا بل هو شيء آخر غير الجمال، ومفهوم مغاير لمفهوم الغرابة. لأن الجمال والسعادة والغرابة كلها معان محجوزة سلفا، ولا يمكن حشر هذا الشعور الفريد بجانبها، إذ أنه ليس من جنسها، ولا يمتّ إليها بسبب من الأسباب، إلا ما كان من قياس أو تشبيه، فالفرحة والراحة والطمأنينة والسكينة، كل أولئك مشاعر من نفس العائلة، عائلة السعادة. ولا يمكن أن ندخل عليها هذا الشعور الجديد، الذي ليس من عالمنا المعاش، والذي ورطت نفسي – يا ويحها – في وصفه وتحليله.
أفيكون شعور الكاتب وهو ينهي ما أراد كتابته هو شعور هاوي الصيد وقد وضع آخر سمكة ليمتلئ بها سطله من اللحم الطريّ ؟ أم هو شعور الأم وهي تمدّ ذراعيها لتمسك مولودها الجديد ؟ لا، ليس هذا ولا ذاك، وإنما هو شيء آخر لا يحسّه إلا الذي يحمل بداخله جينات هذه الهواية.
هذا عن جمالية الكتابة وبهجتها، فأما عن غرابتها فمن وجوه عديدة تكون لا من وجه واحد، وقد لا أعرف من هذه الوجوه إلا بقدر توغّلي في ذاك العالم. من ذلك – مثلا – معاناة الكتابة التي لا تُفسد جماليتها، بل تزيدها جمالا ! ومن ذلك غموض المحلّ الذي تأتي منه مادّة الكتابة، وتولدُ من رحمه هذه السطور المنتظمة كأنها صفوف الجُند ! مع أن الفكرة – الأساس – تكون واضحة، بسيطة، مُصمتة لا يتوقّع المرء أن تخرج منها أوراقٌ أو مجلدات ! كالبذرة الصغيرة المحتقرة، يخرج منها – بقدرة قادر – جذع غليظ عريض طويل، لا يزال يتطاول حتى لتحسبه بالغ قبة السماء ! فالفكرة التي خطرت لي – مثلا – قبل لحظات من تسويد هذه السطور، كانت شيئا من قبيل (متعة الكتابة وبهجتها)، فما أدري إلا وهذه الكلمات تنبت منها كما ترون، وتتجمع في تراكيب متشابكة معقدة، لا تفتأ تتوالد وتتقاسم كخلايا المضغة في عنق الرحم !
وأين أنا من هذا كله ؟ ومالي أراني كأني لا دخل لي بما يحدث أمام ناظريّ من (إنكتاب)، اللهم إلا حركة يدي، وعيني التي تقرأ بصمت كما تقرأ كلمات أي كتاب من الكتب ! أليس في كل ذلكم غرابة (فلسفية) تُعجز عن الوصف ؟
ربما تبدو الكتابة من أقلّ العمليات الإنتاجية تكلفة، إذ لا تتطلب إلا شيئا يُكتب عليه ولو كان ورق الشجر، وأداة تترك أثرا مقروءا ولو كان الحجر ! أما ما يُكلّفك ذلك قبل العملية ذاتها، نفسيا وماديا، مع كرور الأيام وتراكمها من دون أن تنتبه، فحدّث عنه ولا حرج.. إنه الوقت الذي تبذله في البحث عن كل ما يُقرأ، والمال الذي تدفعه لشراء ما يسيل له لعابك من المقروءات، مع أنك لن تقرأ – في الغالب – الكثير منها. ثم الساعات الطويلة من الوحدة والصمت والتأمل والقراءة، والصراع الرهيب الذي ستثور ثائرته بينك وبين نفسك (الناقدة)، التي لا يكاد يعجبها شيء، والتي ليس لها من هدف سوى أن تثبطك وتثني عزمك، وتثبت لك أنك لست – ولن تكون – كاتبا أبدا (ولو سوّدت وجهك بالمداد !)، فيكون عليك ألا تحفل بما تقول، وأن تكتب رغما عن أنفها كل ما تراه سخيفا ومبتذلا وغريبا ومكررا.. لتجد – آخر الأمر – كل تلك الأحكام تتبدّل عند نقطة النهاية، فتسكت تلك الناقدة خاسئة، خجلى.
إذا صبر الكاتب على كل هذه الضرائب والرسوم التي لا مفرّ من تسديدها، فإنه يسترجع كل أتعابه السابقة – إن شاء الله – ويزداد كيلا من المتعة والنشوة، وشيئا من ذلك الشعور الغريب الذي لا وصف له، والسر المستغلق الذي لا مفتاح له، والحجر الكريم الذي لا وجود له.. إلا في عالم الكتابة، في قاع من قيعان تلك البحيرة المترامية الأطراف ! وأما إذا شاء الله بالكاتب خيرا فإنه يصوّب رأيه ويسدّد رميه، فيفتح على يديه ليبلغ أثره في الإنسانية مبلغا لم تبلغه أعتى العساكر قطّ.
خالد
26-11-2016
Re: فلسفة الكتابة - (رفعت خالد)
مرسل: 27 يونيو 2021, 10:16
بواسطة محمد كنجو
جزاك الله كل خير كاتبنا ومديرنا الفاضل
توصيف جميل وساحر يحفز كل من ترواده نفسه للكتابة وخوض غمار هذا البحر الهادئ تارة والثائر متلاطم الأمواج تارة أخرى .
دمت بود وخير وتوفيق من الله
Re: فلسفة الكتابة - (رفعت خالد)
مرسل: 27 يونيو 2021, 12:27
بواسطة وفاء
صراحة لم يلفتني العنوان، دخلت بالصدفة، وبعدها أعجبتني الصورة وأحسست بالسكينة، ومع أول سطر استمتعت جدا، لدرجة أنني تخيلتني أنا ذاك الطفل الصغير الذي لا يجيد التعبير، وأنت ساعدته في وصف الكتابة لديه.
تماما كما كنت أفعل وأنا صغيرة: تأخدني أمي للطبيبة وعندما تسألني مالذي يؤلمك؟ أنظر إلى أمي فتجيب في مكاني وكأنها ستعبر أفضل عما أحسه.
أحب الكتابة حد الشغف رغم أنني لا أتقنها للمستوى المطلوب، لكن لا أستسلم وأعيد المحاولات حتى أنجح يوما في كتابة شيء أسمى بعده كاتبة.
نصك رائع أيها المدير وفكرته سهلة ممتنعة وتشبيهاتك ذكية، دمت متألقا.
Re: فلسفة الكتابة - (رفعت خالد)
مرسل: 27 يونيو 2021, 14:07
بواسطة نيسان
هذه تحتاج الى تفرغ تام للقراءة .. والتمعن ,,, امهلني مديرنا ,,, يعطيك العافية ,,, امهلني ,, مشغول بالتحضير لما استأذنتك به ,,,
Re: فلسفة الكتابة - (رفعت خالد)
مرسل: 27 يونيو 2021, 15:49
بواسطة سلمى
السلام عليكم
رؤيا جميلة للكتابة من خلال لسان الكاتب الذي جعلنا نغوص في فلسفته، لكنني لم أحسه قال كل شيء، أحسست وكأن الموضوع لا يزال طويلا، ربما لأن الكتابة لا نهاية لها، أو لأن الكاتب جعلنا نسترسل في التفكير حتى بعد انتهائه من الكتابة.
أضيف شيئا على كل ما قيل: الكتابة أحيانا تحتاج مهتمين، ومتذوقين، أذكر ذات مرة كتبت شيئا حزينا، بفلسفة عميقة فأتى رد شرح الحالة، لازلت احتفظ به اليوم بعد أكثر من عشر سنين لأنه قال كثيرا من الأشياء.
المتذوقون أيضا يجعلون من الكاتب كاتبا ^^
سأنقل رده هنا:
لا اعرف لماذا اشعر بان بعض الاحزان تبارك الارواح والاجساد رغم ألمها
وتضفي جماليه ساحره على اللغه تطغي على مرارة الحزن نفسه حتى يبرز الجانب الجمالي اكثر ربما لان الحزن اصدق وقادر على تقليبنا ونبشنا اكثر وحين اقرا كثيرا اخرج بقناعه رهيبه : من لا يملك مايكفي من الحزن ليس لديه شيئا جميلا يقوله !!
مع أني منذ زمن لا أؤيد فكرة الكُتّاب في المنتديات، قد أضع لهذا موضوعا لوحده اشرح فيه وجهة نظري واتمنى ان يشاركني فيه الجميع ^^
شكرا اخي خالد.
Re: فلسفة الكتابة - (رفعت خالد)
مرسل: 30 يونيو 2021, 09:51
بواسطة خالد
محمد كنجو كتب: ↑27 يونيو 2021, 10:16
جزاك الله كل خير كاتبنا ومديرنا الفاضل
توصيف جميل وساحر يحفز كل من ترواده نفسه للكتابة وخوض غمار هذا البحر الهادئ تارة والثائر متلاطم الأمواج تارة أخرى .
دمت بود وخير وتوفيق من الله
وجزاك خيرا مثله أخي الحبيب.. بارك الله فيك.
Re: فلسفة الكتابة - (رفعت خالد)
مرسل: 30 يونيو 2021, 09:53
بواسطة خالد
أسيل كتب: ↑27 يونيو 2021, 12:27
صراحة لم يلفتني العنوان، دخلت بالصدفة، وبعدها أعجبتني الصورة وأحسست بالسكينة، ومع أول سطر استمتعت جدا، لدرجة أنني تخيلتني أنا ذاك الطفل الصغير الذي لا يجيد التعبير، وأنت ساعدته في وصف الكتابة لديه.
تماما كما كنت أفعل وأنا صغيرة: تأخدني أمي للطبيبة وعندما تسألني مالذي يؤلمك؟ أنظر إلى أمي فتجيب في مكاني وكأنها ستعبر أفضل عما أحسه.
أحب الكتابة حد الشغف رغم أنني لا أتقنها للمستوى المطلوب، لكن لا أستسلم وأعيد المحاولات حتى أنجح يوما في كتابة شيء أسمى بعده كاتبة.
نصك رائع أيها المدير وفكرته سهلة ممتنعة وتشبيهاتك ذكية، دمت متألقا.
حفظك الرحمن اختي اسيل..
نعم نحاول، وبالحدادة يصير المرء حدادا كما يقال.. من لديه الفضول الكافي والشغف هو من يقتحم هذه العقبة، وإلا فالكتابة عند أكثر الناس طلاسم في كتب، يهابون أصحابها ولكنهم لا يستطيعون حتى قراءة فقرة من هذه (الطلاسم).. ومن جهل شيئا خافه وعاداه.
Re: فلسفة الكتابة - (رفعت خالد)
مرسل: 30 يونيو 2021, 09:54
بواسطة خالد
نيسان كتب: ↑27 يونيو 2021, 14:07
هذه تحتاج الى تفرغ تام للقراءة .. والتمعن ,,, امهلني مديرنا ,,, يعطيك العافية ,,, امهلني ,, مشغول بالتحضير لما استأذنتك به ,,,
مرحبا أخي.. على الرحب والسعة.
Re: فلسفة الكتابة - (رفعت خالد)
مرسل: 30 يونيو 2021, 10:00
بواسطة خالد
سلمى07 كتب: ↑27 يونيو 2021, 15:49
السلام عليكم
رؤيا جميلة للكتابة من خلال لسان الكاتب الذي جعلنا نغوص في فلسفته، لكنني لم أحسه قال كل شيء، أحسست وكأن الموضوع لا يزال طويلا، ربما لأن الكتابة لا نهاية لها، أو لأن الكاتب جعلنا نسترسل في التفكير حتى بعد انتهائه من الكتابة.
أضيف شيئا على كل ما قيل: الكتابة أحيانا تحتاج مهتمين، ومتذوقين، أذكر ذات مرة كتبت شيئا حزينا، بفلسفة عميقة فأتى رد شرح الحالة، لازلت احتفظ به اليوم بعد أكثر من عشر سنين لأنه قال كثيرا من الأشياء.
المتذوقون أيضا يجعلون من الكاتب كاتبا ^^
سأنقل رده هنا:
لا اعرف لماذا اشعر بان بعض الاحزان تبارك الارواح والاجساد رغم ألمها
وتضفي جماليه ساحره على اللغه تطغي على مرارة الحزن نفسه حتى يبرز الجانب الجمالي اكثر ربما لان الحزن اصدق وقادر على تقليبنا ونبشنا اكثر وحين اقرا كثيرا اخرج بقناعه رهيبه : من لا يملك مايكفي من الحزن ليس لديه شيئا جميلا يقوله !!
مع أني منذ زمن لا أؤيد فكرة الكُتّاب في المنتديات، قد أضع لهذا موضوعا لوحده اشرح فيه وجهة نظري واتمنى ان يشاركني فيه الجميع ^^
شكرا اخي خالد.
وعليكم السلام ورحمة الله،
شكرا لك أختي وبارك الله فيك.. لابد عندي ايضا من القارئ في حياة الكاتب، وقد كنت أظن أول ما أمسكت القلم أن الكاتب إنما يكتب لنفسه والسلام.. ولكن هذه النظرة السطحية الأولى على خطئها فيما يبدو لي الآن، مهمة في البدايات حتى لا يخيب أمل المبتدئ بقلة التفات القراء لما يكتب.
ونعم لم أقل كل شيء عن الكتابة في هذا المقال.. ولذلك كتبت (فلسفة الكتابة 2) وربما اكتب غيرها كذلك.. ولذلك خصصت قسما تحت المقالات أسميته (مقالات عن الكتابة) ^^
شكرا
Re: فلسفة الكتابة - (رفعت خالد)
مرسل: 30 يونيو 2021, 18:30
بواسطة سلمى
جميل نحن بانتظار مقالاتك إذا أخ خالد
أعانك الله.
Re: فلسفة الكتابة - (رفعت خالد)
مرسل: 07 سبتمبر 2021, 13:00
بواسطة عبدالرحمن الناصر
نعم يا أخى للكتابة فلسفة عجيبة وغريبة - ربما يأتيك موقف كوميدى مضحك - كلما تذكرته ضحكت عليه وسخرت كثيرا" من أصحابه فأردت أن تدونه كتابة" وبدأت تكتب وإذا بالفكرة
تتحول وتلوى عنق الأقلام وتنقلب إلى مأساة حقيقية فتكتشف وأنت تكتب أن هؤلاء الذين كنت تسخر منهم ما هم إلا ضحايا لظروف قاسية لم تكن تراها فيتحول قلمك الذى بدأ ساخرا"
إلى قلم تسيل منه الدموع وتتصارع بين جنباته الكلمات والمعانى فيخرج موضوعا" لم تكن تتوقعه - نعم للكتابة فلسفة عجيبة
شكرا" للأستاذ / رفعت خالد
.
Re: فلسفة الكتابة - (رفعت خالد)
مرسل: 07 سبتمبر 2021, 13:06
بواسطة خالد
شكر الله لك أخي عبدالرحمن..
ملاحظة عجيبة فعلا.. كم من حاجة أردنا كتابتها فكتبنا غيرها ^^