سوف نبقى هنا -المهندس (مس. ما خفي أجمل 4)
مرسل: 11 فبراير 2024, 14:08
المكان: غزة – فلسطين
الزمان: السادس من أكتوبر 2023
سمع الله لمن حمده
الله أكبر
.
.
السلام عليكم ورحمة الله
السلام عليكم ورحمة الله
( شيخ تيسير .. يا شيخ .. )
( أهلاً محمد )
( رأيت مناماً .. هل تفسره لي من فضلك ؟ )
( قل ماذا رأيت .. وعجًل.. )
( رأيت فرساً له أجنحة، يطير فوق جدارٍ كبير، ثم يهبط على جرداء أرضٍ، فتغدو كغابةٍ خضراء )
توقف فجأة! ثم إنه ابتسم في وجهِ ( محمد ) وتفرقا ..
كان يعلم بأن هذه الجملة هي كلمة السرِ لأمرٍ عظيمٍ يترقّبه منذ سنوات، رفع رأسه إلى السماء، فأبصرها سماوية اللون .. اكثر من أي يوم مضى، ثم اغمض عينيه وتمتم ( أشم رائحة الحرية ).
في السوق .. كان يسمع صراخ البائعين يعرّفِوُن عن بضاعتهم بأوصاف لا تسمعها الأذن إلاّ في غزة .
( طماطم حمراء .. مثل الدم )
( لن انقص من السعر أكثر من ذلك .. كلمتي كالرصاصة )
( يا سيدتي هذا حرير أصلي.. حين تلبسينه تشعرين بالحرية خارج هذه المدينة المحبوسة .. صدقيني )
( ورد وياسمين .. رائحته كرائحة الشهداء )
ولماّ أدرك منزله، أبصر طفله الذي بلغ الثالثة منذ أيامٍ ثلاثة، ضمه إلى صدره، ونظر إلى زوجتهِ تضع رضيعها بجانبها يبكي جوعاً .. يستعجلها في صلاتها لتطعمه.
قعد إلى الحصيرة، والشمس تزاور نافذته ذات اليمين، حتى إذا ما استقرت أشعتها على مصحفه، وشت بأن طعام الغداء قد حان ..
( لو أنك جلبت معك قطعة حلوى من السوق لهذا الطفل يا تيسير )
قالت جملتها وهي تضع أمامه بصلاَ وعدساً .. واستقرت أمامه
كان يُجلِس طفله في حجرهِ، ويقول باسماً لزوجتهِ
( يوم اشتهت زوجه الحلوى فقال لها ... من أين لي ثمن الحلوى فأشريها
الحمد لله يا أم ثائر .. وأنت يا ثائر .. قل لي: ماذا ستفعل باليهود حين تكبر ؟ أجب أيها البطل الصغير )
( طاخ .. طاخ .. )
( أحسنت يا بطل )
استحضرته ذكريات صديقه ( فيصل ) المغترب في كندا منذ سنوات، حين أخبره ذات زيارةٍ إلى القطاع ..
(النجاح يعتمد على التحضير فبدون التحضير سيكون الفشل مؤكدا.)
كان مهووساً جداً بأقوال كونفوشيوس، ويرى في أقواله ما يلامس الواقع..
في غزة ..
الحرب هي الفصل الخامس من السنة، لا موعد له ..
يعرفه سكان القطاع من خطوة الشتاء لمقاومٍ، تسلل في ظلمة الليل، وفي يدهِ اليمنى بندقية، وفي صدرهِ طوفان مشاعرٍ، ونفسه ترنو إلى الصلاة في المسجد الأقصى، والتأمل في قبة الصخرة كل يوم.
في غزة ..
يتربى الأولاد على الرقص مع الموت دون خوف، ويصنعون من الدمار المعجزة، وتستقبل الأم أولادها الشهداء بزغرودة ودمعتين.
( ما بك يا تيسير ؟! أراك شارد الذهن على غير عادتك ..)
اكتفى برسم ابتسامةٍ على محياه، وشرع بتناول العدس، وأكثر من الحمد والشكر ..
طرقات الباب كانت كفيلة بأن تخرجه من شروده، فزمّلَ هواجسه، واستطلع الطارق..
فتناهى إلى سمعه صوت ( محمد ) ..
محمد كان رفيق الدراسة في الجامعة الإسلامية في غزة، فقد والده وأخاه في حرب العصف المأكول سنة 2014م، وبينما كان ( تيسير ) إمام مسجدٍ، فقد شرع صاحبه إلى التجارة.
وبعباراتٍ مختصرةٍ مبهمة، عَلِمَ بأن هذه اللحظة ستكون الأخيرة له في بيته وبين أطفاله إلى أن يقضي الله أمراً.
قبّل طفليهِ، وودع زوجته طويلاً على غير عادتهِ .. فأمسكت بتلابيبه طويلاً وهمست في أذنه ( سأنتظر عودتك مهما طالت .. ولا تنسى حليب الرضيع ( يحي ) .. تسمع ! )
فابتسم لها دون أن ينبس ببنت شفة.. ومضى و ( محمد ) خارج البيت.
وبّيْنَـا كانا يمشيان سوياً، إذ استوقفهما صوت صديقهما الطبيب ( عادل ) في طريقه إلى مشفى الشفاءِ ..
كان ( عادل ) ذا صوتٍ عذب حين ينشد، ولطالما أصر رفاقه الأطباء على أن ينشد لهم في الاستراحةِ
( سوف نبقى هنا، كي يزول الألم، سوف نحيا هنا، سوف يحلو النغم ) ..
في غزة ..
الألم هو العامل المشترك في كلمات ووجدان الجميع، ولكل واحدٍ طريقته في التعبير.. لكن الأحلام لا تموت.
كان ( تيسير) يستمع إليهما، وعادل يُخبر محمداً عن شُح الإمكانيات في المشفى، وأن منظومة الصحة بكاملها تحتاج إلى ميزانية ضخمة، حتى تشمل سكان القطاع.
وبَيْنَـا هما كذلك .. رأى ( تيسير ) طفلاً يركل كرةً - قد صنعها من بضع جوارب - إلى الحائط، وتبدو علامات الوحدة واضحةً على ملامحه، فاقترب منه، وأشار له أن يركل كرته إليه .. ففعل الطفل.
حتى إذا ما استقرت في يد تيسير تقدم إلى الطفل، وقعد بجانبه على الرصيف .. اخبرني ما اسمك ؟
( عماد عقل )
( دعني أخبرك امراً يا عماد .. هل تعلم لِم أسماك والدك بهذا الاسم ؟ )
تمتم الطفل في حزنٍ ( الله يرحمه .. شهيد )
ضمه إلى صدره ثم قال له:
( لقد منحك هذا الإسم لأنك بطل مثله .. فقد كان مجاهداً وقائداً عسكرياً ميدانياً في حركة المقاومة الإسلامية (حماس)، ومن مؤسسي كتائب عز الدين القسام في الضفة الغربية. استشهد في اشتباك مسلح مع جيش الاحتلال الإسرائيلي بعد انكشاف مكان اختبائه.
وأنت يا عماد .. ستصبح مثله حين تكبر )
( لكنني أريد أن أصبح حارس مرمى .. مثل " بونو " حارس المغرب )
( إن كان هذا حلمك.. فسوف تحققه إن شاء الله .. )
قطع حديثهما ( محمد ) بجملتهِ ( نكمل طريقنا يا شيخ تيسير ..؟ ) ... ففعل.
ولمّا أدرك ( تيسير ) وصاحبه مدخل الحارة الشرقية، كان ( عيّاش ) في انتظارهما، وكعادتهِ .. يرسم على الجدار شعار المقاومة، وعلم فلسطين.
في غزة ..
الرسم على الجدران ليست مجرد هواية ينفس بها المرء عن دواخله، بل هو إثبات وجود، وامتداد تاريخ.
استقبلهما ببشاشتهِ المعهودة، ومزاحه الثقيل مع ( محمد )، حتى استقرا في داخل بيتهِ، فأطفأ سيجارته عند دخول أمهِ إلى المجلس وبين يديها ابريق شاي ..
( وكأني لا أشم رائحة سيجارتك يا عيّاش )
( أنا ..! .. أنا يا أمي ..! معاذ الله .. هذه سيجارة الشيخ تيسير )
( الشيخ تيسير .. إمام مسجد يا ولد .. اتقِ الله )
( شكراً يا خالتي .. ولدكِ هذا مشاكس جداً )
( الله يرضى عليكم يا أولادي )
ثم إن والدة عيّاش قد انصرفت ..
كان مجلسهم مفعم بالأمل، ونظرتهم إلى ما هو قادم .. كمن ينتظر مولوده في رواق المشفى، بين ترقبٍ وحلم
لم يفترقوا حتى صلاة العشاءِ، وبعد التسليم..
(ليت فيصل معنا)
قالها تيسير وصمت البقية .. ثم تفرقوا كلٌ إلى قدره.
يدرك كل واحدٍ منهم وجهتهُ.. ويعلمون بأن النهاية أحد أمرين، نصر أو استشهاد
النفق الأول .. كان من نصيب ( تيسير )، وكتيبة الحفاظ تنتظره بفارغ الصبر
النفق الثاني .. كان من نصيب ( محمد )، وكتيبة النخبة تعرف بأسه وشجاعته
النفق الثالث .. كان من نصيب ( عيّاش )، وبندقية الغول بينها وبينه حكاية غرامٍ وعزم
تقول الجدة ( رحلت فلسطين، ولم تودعكم )
لم ترحل فلسطين بعد يا جدتي.. ولن نودعها إلاّ إن اختارنا الله أحياء عنده) )
هكذا حدثته نفسه، وهو يقبّل بندقيته الغول
السابع من أكتوبر
الساعة السادسة صباحاً
كوابلٍ من سجيل، حلقت صواريخ الحرية من سماء غزة إلى سماء إسرائيل، وحملت الريح رجالاً صدقوا ما عاهدوا الله عليه ، ليجتازوا سور السجان، فتجسدت الشجاعة أمام سكان غلاف غزة، وخروا أمام إيمان القوم خزياً وعارا.
كان الوقت طرفاً مهماً في معادلة النجاح، وخلف الوقت رجالٌ يعقلون بعد طول تخطيط، والأسرى يتساقطون تباعاً كأوراق شجرٍ عصفت بها الرياح ذات خريف، وقومٌ يحمدون الله مع كل أسير اسرائيلي.
الإعلام ينشر الخبر، وغبار الحربِ يغشى السماء، فتتساقط على القطاع حمم غضبٍ إسرائيلية، وتفوح من القطاعِ رائحة الشهداء .. مسكاً وعنبرا.
لم تكن صدفةً حين التحق ( تيسير ) بالمقاومة، فقد رأى استشهاد والده أمامهُ .. طفلاً بلا حولٍ ولا قوة
وأمٌ قد حملت الهم وهناً على وهنٍ، وبذرت الدين والكرامة فيه واخوتهِ، فحصدت إماماً ومقاتلا
وفي النفق كان ورفاقه يتناوبون على قراءة الأجزاء في انتظار دورهم .. في حلم التحرير وكسر القيد
وبيّنا ( محمد ) ورفاقه يقاتلون في غلاف غزة، بعد أن اتخذوا من الأنفاق طريقاً لهم، كانت التعليمات تصلهم بالبقاء والاشتباك مع الجيش الإسرائيلي من المسافة صفر، والصمود ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا.
وبالرغم من إصابته، تحامل على نفسهِ، وضم سلاحه إلى صدره، واتخذ من جدارٍ ساتراً له، حتى تناهى إلى سمعه أصوات أقدامٍ الجيش تجري في اتجاههِ، فنظر إلى السماء في تعبٍ .. وابتسم ابتسامة الخلود.
الصحفيون ينقلون الأخبارِ، يتحدثون عن سقوط المباني، وعن دمارٍ شاملٍ في كل انحاء القطاعِ، وعن يد أمٍ تحت الركام تمسك بيد ولدها، وهو يحفر الأرض بأظافره لانتشالها..
يتحدثون عن كمينٍ أسقط تسعة مجندين، وتفجير ناقلة جندٍ .. ودبابتين..
يتحدثون عن اجتماع عربي، وقراراتٍ تجاوزت حدة لهجتها حدود صالة الاجتماع، إلى الرواق المجاور، وصفق لها قردٌ وخنزيرٌ .. وعباءتين.
التقطت عدسة الكاميرا امرأة، تسأل الرجال عن زوجها، وقد وعدها بحليبٍ لرضيعٍ اسمه ( يحي )، وتقسم بأنه لم يخلف معها وعداً ..
التقطت عدسة الكاميرا طائرةً تمطر رجلاً بوابل رصاصٍ، فاستكان إلى حائطٍ لبرهةٍ، وفي يده اليمنى بندقيتهِ، وفي اليسرى مصحفاً، وأسلم روحه ساجداً لرب العالمين .. قال المذيع بأن اسمه ( تيسير ).
ومن خلف عدسة بندقيته، كان ( عياش) يصطاد الجندي تلو الآخر ويهتف بالتكبير بعد كل رميةٍ، ثم يتبعها بجملةٍ تردد صداها في سماء القطاع ( من أجلك يا الله، من أجلكِ يا فلسطين ).
.
.
.
( يا ثائر .. تعال هنا، عمك ( عياش) وعمك ( عادل ) يسألان عنك )
( حاضر يا أمي .. أنا قادم )
أخفى سلاحه تحت سريرهِ، وقف أمام المرآة يمشط لحيته، وأبصر صورة والده خلفه من خلال المرآة.. وابتسم.
الزمان: السادس من أكتوبر 2023
سمع الله لمن حمده
الله أكبر
.
.
السلام عليكم ورحمة الله
السلام عليكم ورحمة الله
( شيخ تيسير .. يا شيخ .. )
( أهلاً محمد )
( رأيت مناماً .. هل تفسره لي من فضلك ؟ )
( قل ماذا رأيت .. وعجًل.. )
( رأيت فرساً له أجنحة، يطير فوق جدارٍ كبير، ثم يهبط على جرداء أرضٍ، فتغدو كغابةٍ خضراء )
توقف فجأة! ثم إنه ابتسم في وجهِ ( محمد ) وتفرقا ..
كان يعلم بأن هذه الجملة هي كلمة السرِ لأمرٍ عظيمٍ يترقّبه منذ سنوات، رفع رأسه إلى السماء، فأبصرها سماوية اللون .. اكثر من أي يوم مضى، ثم اغمض عينيه وتمتم ( أشم رائحة الحرية ).
في السوق .. كان يسمع صراخ البائعين يعرّفِوُن عن بضاعتهم بأوصاف لا تسمعها الأذن إلاّ في غزة .
( طماطم حمراء .. مثل الدم )
( لن انقص من السعر أكثر من ذلك .. كلمتي كالرصاصة )
( يا سيدتي هذا حرير أصلي.. حين تلبسينه تشعرين بالحرية خارج هذه المدينة المحبوسة .. صدقيني )
( ورد وياسمين .. رائحته كرائحة الشهداء )
ولماّ أدرك منزله، أبصر طفله الذي بلغ الثالثة منذ أيامٍ ثلاثة، ضمه إلى صدره، ونظر إلى زوجتهِ تضع رضيعها بجانبها يبكي جوعاً .. يستعجلها في صلاتها لتطعمه.
قعد إلى الحصيرة، والشمس تزاور نافذته ذات اليمين، حتى إذا ما استقرت أشعتها على مصحفه، وشت بأن طعام الغداء قد حان ..
( لو أنك جلبت معك قطعة حلوى من السوق لهذا الطفل يا تيسير )
قالت جملتها وهي تضع أمامه بصلاَ وعدساً .. واستقرت أمامه
كان يُجلِس طفله في حجرهِ، ويقول باسماً لزوجتهِ
( يوم اشتهت زوجه الحلوى فقال لها ... من أين لي ثمن الحلوى فأشريها
الحمد لله يا أم ثائر .. وأنت يا ثائر .. قل لي: ماذا ستفعل باليهود حين تكبر ؟ أجب أيها البطل الصغير )
( طاخ .. طاخ .. )
( أحسنت يا بطل )
استحضرته ذكريات صديقه ( فيصل ) المغترب في كندا منذ سنوات، حين أخبره ذات زيارةٍ إلى القطاع ..
(النجاح يعتمد على التحضير فبدون التحضير سيكون الفشل مؤكدا.)
كان مهووساً جداً بأقوال كونفوشيوس، ويرى في أقواله ما يلامس الواقع..
في غزة ..
الحرب هي الفصل الخامس من السنة، لا موعد له ..
يعرفه سكان القطاع من خطوة الشتاء لمقاومٍ، تسلل في ظلمة الليل، وفي يدهِ اليمنى بندقية، وفي صدرهِ طوفان مشاعرٍ، ونفسه ترنو إلى الصلاة في المسجد الأقصى، والتأمل في قبة الصخرة كل يوم.
في غزة ..
يتربى الأولاد على الرقص مع الموت دون خوف، ويصنعون من الدمار المعجزة، وتستقبل الأم أولادها الشهداء بزغرودة ودمعتين.
( ما بك يا تيسير ؟! أراك شارد الذهن على غير عادتك ..)
اكتفى برسم ابتسامةٍ على محياه، وشرع بتناول العدس، وأكثر من الحمد والشكر ..
طرقات الباب كانت كفيلة بأن تخرجه من شروده، فزمّلَ هواجسه، واستطلع الطارق..
فتناهى إلى سمعه صوت ( محمد ) ..
محمد كان رفيق الدراسة في الجامعة الإسلامية في غزة، فقد والده وأخاه في حرب العصف المأكول سنة 2014م، وبينما كان ( تيسير ) إمام مسجدٍ، فقد شرع صاحبه إلى التجارة.
وبعباراتٍ مختصرةٍ مبهمة، عَلِمَ بأن هذه اللحظة ستكون الأخيرة له في بيته وبين أطفاله إلى أن يقضي الله أمراً.
قبّل طفليهِ، وودع زوجته طويلاً على غير عادتهِ .. فأمسكت بتلابيبه طويلاً وهمست في أذنه ( سأنتظر عودتك مهما طالت .. ولا تنسى حليب الرضيع ( يحي ) .. تسمع ! )
فابتسم لها دون أن ينبس ببنت شفة.. ومضى و ( محمد ) خارج البيت.
وبّيْنَـا كانا يمشيان سوياً، إذ استوقفهما صوت صديقهما الطبيب ( عادل ) في طريقه إلى مشفى الشفاءِ ..
كان ( عادل ) ذا صوتٍ عذب حين ينشد، ولطالما أصر رفاقه الأطباء على أن ينشد لهم في الاستراحةِ
( سوف نبقى هنا، كي يزول الألم، سوف نحيا هنا، سوف يحلو النغم ) ..
في غزة ..
الألم هو العامل المشترك في كلمات ووجدان الجميع، ولكل واحدٍ طريقته في التعبير.. لكن الأحلام لا تموت.
كان ( تيسير) يستمع إليهما، وعادل يُخبر محمداً عن شُح الإمكانيات في المشفى، وأن منظومة الصحة بكاملها تحتاج إلى ميزانية ضخمة، حتى تشمل سكان القطاع.
وبَيْنَـا هما كذلك .. رأى ( تيسير ) طفلاً يركل كرةً - قد صنعها من بضع جوارب - إلى الحائط، وتبدو علامات الوحدة واضحةً على ملامحه، فاقترب منه، وأشار له أن يركل كرته إليه .. ففعل الطفل.
حتى إذا ما استقرت في يد تيسير تقدم إلى الطفل، وقعد بجانبه على الرصيف .. اخبرني ما اسمك ؟
( عماد عقل )
( دعني أخبرك امراً يا عماد .. هل تعلم لِم أسماك والدك بهذا الاسم ؟ )
تمتم الطفل في حزنٍ ( الله يرحمه .. شهيد )
ضمه إلى صدره ثم قال له:
( لقد منحك هذا الإسم لأنك بطل مثله .. فقد كان مجاهداً وقائداً عسكرياً ميدانياً في حركة المقاومة الإسلامية (حماس)، ومن مؤسسي كتائب عز الدين القسام في الضفة الغربية. استشهد في اشتباك مسلح مع جيش الاحتلال الإسرائيلي بعد انكشاف مكان اختبائه.
وأنت يا عماد .. ستصبح مثله حين تكبر )
( لكنني أريد أن أصبح حارس مرمى .. مثل " بونو " حارس المغرب )
( إن كان هذا حلمك.. فسوف تحققه إن شاء الله .. )
قطع حديثهما ( محمد ) بجملتهِ ( نكمل طريقنا يا شيخ تيسير ..؟ ) ... ففعل.
ولمّا أدرك ( تيسير ) وصاحبه مدخل الحارة الشرقية، كان ( عيّاش ) في انتظارهما، وكعادتهِ .. يرسم على الجدار شعار المقاومة، وعلم فلسطين.
في غزة ..
الرسم على الجدران ليست مجرد هواية ينفس بها المرء عن دواخله، بل هو إثبات وجود، وامتداد تاريخ.
استقبلهما ببشاشتهِ المعهودة، ومزاحه الثقيل مع ( محمد )، حتى استقرا في داخل بيتهِ، فأطفأ سيجارته عند دخول أمهِ إلى المجلس وبين يديها ابريق شاي ..
( وكأني لا أشم رائحة سيجارتك يا عيّاش )
( أنا ..! .. أنا يا أمي ..! معاذ الله .. هذه سيجارة الشيخ تيسير )
( الشيخ تيسير .. إمام مسجد يا ولد .. اتقِ الله )
( شكراً يا خالتي .. ولدكِ هذا مشاكس جداً )
( الله يرضى عليكم يا أولادي )
ثم إن والدة عيّاش قد انصرفت ..
كان مجلسهم مفعم بالأمل، ونظرتهم إلى ما هو قادم .. كمن ينتظر مولوده في رواق المشفى، بين ترقبٍ وحلم
لم يفترقوا حتى صلاة العشاءِ، وبعد التسليم..
(ليت فيصل معنا)
قالها تيسير وصمت البقية .. ثم تفرقوا كلٌ إلى قدره.
يدرك كل واحدٍ منهم وجهتهُ.. ويعلمون بأن النهاية أحد أمرين، نصر أو استشهاد
النفق الأول .. كان من نصيب ( تيسير )، وكتيبة الحفاظ تنتظره بفارغ الصبر
النفق الثاني .. كان من نصيب ( محمد )، وكتيبة النخبة تعرف بأسه وشجاعته
النفق الثالث .. كان من نصيب ( عيّاش )، وبندقية الغول بينها وبينه حكاية غرامٍ وعزم
تقول الجدة ( رحلت فلسطين، ولم تودعكم )
لم ترحل فلسطين بعد يا جدتي.. ولن نودعها إلاّ إن اختارنا الله أحياء عنده) )
هكذا حدثته نفسه، وهو يقبّل بندقيته الغول
السابع من أكتوبر
الساعة السادسة صباحاً
كوابلٍ من سجيل، حلقت صواريخ الحرية من سماء غزة إلى سماء إسرائيل، وحملت الريح رجالاً صدقوا ما عاهدوا الله عليه ، ليجتازوا سور السجان، فتجسدت الشجاعة أمام سكان غلاف غزة، وخروا أمام إيمان القوم خزياً وعارا.
كان الوقت طرفاً مهماً في معادلة النجاح، وخلف الوقت رجالٌ يعقلون بعد طول تخطيط، والأسرى يتساقطون تباعاً كأوراق شجرٍ عصفت بها الرياح ذات خريف، وقومٌ يحمدون الله مع كل أسير اسرائيلي.
الإعلام ينشر الخبر، وغبار الحربِ يغشى السماء، فتتساقط على القطاع حمم غضبٍ إسرائيلية، وتفوح من القطاعِ رائحة الشهداء .. مسكاً وعنبرا.
لم تكن صدفةً حين التحق ( تيسير ) بالمقاومة، فقد رأى استشهاد والده أمامهُ .. طفلاً بلا حولٍ ولا قوة
وأمٌ قد حملت الهم وهناً على وهنٍ، وبذرت الدين والكرامة فيه واخوتهِ، فحصدت إماماً ومقاتلا
وفي النفق كان ورفاقه يتناوبون على قراءة الأجزاء في انتظار دورهم .. في حلم التحرير وكسر القيد
وبيّنا ( محمد ) ورفاقه يقاتلون في غلاف غزة، بعد أن اتخذوا من الأنفاق طريقاً لهم، كانت التعليمات تصلهم بالبقاء والاشتباك مع الجيش الإسرائيلي من المسافة صفر، والصمود ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا.
وبالرغم من إصابته، تحامل على نفسهِ، وضم سلاحه إلى صدره، واتخذ من جدارٍ ساتراً له، حتى تناهى إلى سمعه أصوات أقدامٍ الجيش تجري في اتجاههِ، فنظر إلى السماء في تعبٍ .. وابتسم ابتسامة الخلود.
الصحفيون ينقلون الأخبارِ، يتحدثون عن سقوط المباني، وعن دمارٍ شاملٍ في كل انحاء القطاعِ، وعن يد أمٍ تحت الركام تمسك بيد ولدها، وهو يحفر الأرض بأظافره لانتشالها..
يتحدثون عن كمينٍ أسقط تسعة مجندين، وتفجير ناقلة جندٍ .. ودبابتين..
يتحدثون عن اجتماع عربي، وقراراتٍ تجاوزت حدة لهجتها حدود صالة الاجتماع، إلى الرواق المجاور، وصفق لها قردٌ وخنزيرٌ .. وعباءتين.
التقطت عدسة الكاميرا امرأة، تسأل الرجال عن زوجها، وقد وعدها بحليبٍ لرضيعٍ اسمه ( يحي )، وتقسم بأنه لم يخلف معها وعداً ..
التقطت عدسة الكاميرا طائرةً تمطر رجلاً بوابل رصاصٍ، فاستكان إلى حائطٍ لبرهةٍ، وفي يده اليمنى بندقيتهِ، وفي اليسرى مصحفاً، وأسلم روحه ساجداً لرب العالمين .. قال المذيع بأن اسمه ( تيسير ).
ومن خلف عدسة بندقيته، كان ( عياش) يصطاد الجندي تلو الآخر ويهتف بالتكبير بعد كل رميةٍ، ثم يتبعها بجملةٍ تردد صداها في سماء القطاع ( من أجلك يا الله، من أجلكِ يا فلسطين ).
.
.
.
( يا ثائر .. تعال هنا، عمك ( عياش) وعمك ( عادل ) يسألان عنك )
( حاضر يا أمي .. أنا قادم )
أخفى سلاحه تحت سريرهِ، وقف أمام المرآة يمشط لحيته، وأبصر صورة والده خلفه من خلال المرآة.. وابتسم.