بلا اسم -نجمة (مس. ما خفي أجمل 4)
مرسل: 11 فبراير 2024, 14:06
اهش الأغنام بعصاتي وأعود لأحتضان صديقي الحمل الصغير سماوي ، أمه حُميراء بجانبي ، آمنة مطمئنة عليه ، كيف لا وأنا من اعتنيت بهم منذ نعومة أظافري ، أعدت تقبيله ، اليوم آخر يوم لي معهم سأتزوج بعد بضع أسابيع ولم يعد الخروج للشمس مقبولا، هكذا قالت أمي ، ضحكت ، لا أظن أن هذا الوقت سيكفي لمحو أثر التنور من يداي والأشواك من قدمي !
مساء ذلك اليوم انتظرت أخي على جانب الطريق قادما من مدرسته ، انهيت بقية أعمالي ، وقبل النوم كعادته قرأ علي قصة ، أحب سماع القصص ، طالعت الكتاب بحسرة وانا أتمنى لو افهم تلك الخربشات !
مرّت الأسابيع كلمح البصر ، وبات موعد عرسي قريبا ، اليوم بشكل خاص طلب والدي أن احضر له الفطور في الفناء الخلفي ، خطوت خطوات مرتجفة إليه ، لم أرفع عيناي ، قرّبت طعامه ، امسك يدي بدفئ ، لم أرى ملامحه بسبب الدموع التي ملأت مقلتاي ، بدأ يوصيني بنبرة لأول مرة اسمعها ، امسح دموعي علّها تترك لي مجالا لأرى ملامحه ، لأستبدلها بتلك الملامح الجامدة العالقة في عقلي ، لكنها أبت التوقف .
لا اتذكر الكثير من يوم زفافي ، ولم أفهم تصرفاتي يومها ، كأن عقلي خرج عن سيطرته ، اتذكر القطعة الشهية من كبد الخروف التي قدمت كضيافة لنا ، وأنا أنظر لها من خلف الغطاء الأخضر الشفاف الذي حجب عني كل المشاهد و الوجوه ،عدا الروائح الشهية تلك ،حين غفلت أمي عني تسللت يدي لقطعة صغيرة ، رميتها في فمي متناسية امر انيابي التي تتساقط ، أكملت يومي أبكي مغيبة من الألم ، ودعتني أمي وذرفت المزيد من الدموع عليها و على أسناني ، بعدها بلحظات فوجئت بحجابي الذي رفع فجأة وملامح غاضبة تنظر لي قبل أن تعيده كما كان ، تعالت أصوات غاضبة و رجل يصيح
_انها طفلة ، طفلة
ماذا يحدث ؟ قلقت ، ربما هناك طفلة ضائعة ، لن اتحرك من مكاني كما امرتني أمي ، يال الطفلة المسكينة ، أعدت ترتيب غطائي وعاد ألم أسناني بقوة أكبر!
مرّت ساعات قبل أن تعود الخطوات الغاضبة ، نزع حجابي لكن هذه المرّة بالكامل وقد رقت الملامح ملامحه ، حقيقة أن هذا زوجي تخيفني كثيرا ، لطالما دعوت أن أتزوج رجلا بشوش عكس والدي تماما ، يال خيبتي فهذا يشبهه تماما .
_كم عمرك ؟
السؤال المفاجئ أخرجني من أفكاري
_ عشر سنوات.
صوتي بالكاد يسمع ، لذا كرر سؤاله فكررت إجابتي ولعجبي كانت بنفس النبرة لكنه سمعها، رأى على ملامحي الألم وقبل أن يسالني أشرت بخوف على أسناني ، اختفى لدقائق قبل أن يعود
_ هذا قرنقل ضعيه عليها لكن لا تبلعيه
هززت رأسي ، ساعدني في تغيير ملابسي ،سرّح شعري ، بادئ ذي بدء كنت خجولة لكن بشاشته طمئنتي ،ضحكت كما لم اضحك من قبل ، ربما اهذي فأنا بلا نوم ولا وطعام ،لا اتذكر كيف وصلنا لهذا الحال ، أطعمني بعض الحلوى ونمت كأني لم أكن احتضر قبلا من الألم .
توالت الأيام وأصبحت سهرتنا تلك روتين يومي ، هو يقص علي الطرائف وأخبار أسفاره إلى الهند والخليج وما لقيه من عجائب في البحار والغابات هناك وأنا أقص عليه مغامراتي بين الأودية ، عن خرافي ، اسمائهم وعن سماوي اللطيف الذي اشتاقه !
كان يقرأ كتبا كثيرة ، يقرأ لي بعضها وأحيانا افتحها لمشاهدة الصور فيها فحسب ..
_من هذا ؟
سألته حين رأيت صورة على كتاب ما
_ هذا كونفوشيوس
_ اسمه مضحك أكثر من صورته
قلتها مقهقهة
_ هل تريدين تعلم القرآءة ؟
رفعت عيناي له بحيرة
_ سأسافر قريبا وسأترك لك بعض الكتب لتتسلي بها ، حبذا لو تكتبي لي سأكون سعيدا بقرآءة أي شيء عنك .
زادت حيرتي من إصراره ، لكنه كما قال فعل ، تعلمت سريعا ، كنت شغوفة وكأني في حرب مع الزمن لأتعلم قبل رحيله ، وكم كانت فرحتي عظيمة حين بدت لي معاني تلك الخربشات الغامضة المسماة حروف !
بالرغم من لطفه معي الأ أن توجس ما في داخلي بدأ يكبر ، تارةً أراه سارحاً لا ينتبه لي وتارةً أخرى ينظر لي وكأنه ينظر لكبش على وشك أن يُذبح!
هكذا انتهى الحلم ، في غمضة عين طارت الأجنحة التي استظل بها ، وهو يوصيني أن اكتب له كل ما يحصل معي ، لم اعرف معنى كلمته الأ حين شعرت بالمؤامرات التي تحاك ضدي خفية وذلك الدلال الذي عشته ماهو الأ صراع خاضه زوجي كي يتركوني وشأني ، لكنه ببساطة قد رحل .
في البداية لم افهم ، حتى أخبرتني سلفتي أن زواجي كان بسبب دين بين والدي ووالد زوجي، لم اسمع بقية كلامها ، لان تلك الحقيقة صفعتني بلا رحمة !
بعدها صفعتني حماتي حرفياً لمرات كلما تأخرت عن عملي لثوانِ لكن ليس بألم تلك الصفعة ، تألمت ، جعت ، عطشت بفم مبتسم ، كرهت والدي ، أحلم به وهو يلقيني من أعلى الجبل ، صبرت على أمل عودة من يسمى زوجي ، فهو من تبقى لي الآن ، لكن الأشهر تحولت لسنة ثم سنين ، عاد بعد خمس سنوات ، ولم أكتب له رسالة قط .
كنت طفلة بثوب إمرأة بالِ ، برآءتي خدشت لم أعد بذلك النقاء والروح الصافية ، أخذت مني تلك السنوات ما أخذت من ظلم وشتات ، لم أرى اهلي فيها سوى مرتان ، لم يكن يسمح لي بزيارتهم ، نفسي الضائعة ترى فيهم صورة الظلم الذي تحياه .
اصنع الطعام ولا يحق لي اكله ، احلب البقر والأغنام ولا يحق لي شرب حليبها ، اجني المحاصيل ولا آكل الأ فتاتها ، والأسوأ من كل ذلك اجلب الماء ولا اغتسل به ، كان علي الذهاب إلى البئر في جوف الليل وصقيع البرد ، لا نسى نصيحة سلفتي ، غطي وجهك إذا شعرتي بقدوم أحد ، حتى لا يقول في اليوم التالي رأيت فلانة بل سيقول رأيت إحداهنّ ، أذهب وأنا ارتجف من تخيل أن أعيش ذلك الموقف وأعود وأنا ارتجف لساعات شوقا لملامح كدت انساها !
في أجازته القصيرة تلك تعلقت به أكثر ، سألني كثيرا عن السنوات التي خلت لكني أخبرته القليل ، لم أعد أثرثر كالسابق ، خفت أن أقول شيء خاطئ فيطلقني ، سيقتلني والدي ولن يقبل بي أي أحد !
اهداني كتبا جديدة وملابس أخذتها مني حماتي في اليوم التالي ، قطعا ذهبية اختفت ورأيتها بعد أيام تزين عنقها ايضا ، تغيرت معاملتهم لي جذريا ، كنت متأكدة من ذلك ، لم يبقى طويلا بضعة اسابيع وعاد لسفره ، ليخلف وراءه روحا تنمو في احشائي قلبت حياتي رأسا على عقب ، حملته وهناً على وهن ، حين اتعب تسندني جذوع الشجر والصخور ، كفرس مثقلة من شدة العدو ، استريح عليها قبل أكمل عملي ، سبعة أشهر فقط وبعد معاناة مع المخاض لأيام أنجبت صغيري ،كفرخ حمام بالكاد يتنفس .
صحته تزداد سوءا ، يوجد طبيب في القرية المجاورة ، مسيرة نصف يوم ، لكن لم يهتم أحد ، حين زارتني أمي ورأته ، قالت لي أن لا اتعلق به لأنه سيموت ، توسلت إليها أن يذهبوا به إلى الطبيب لكنها هزت رأسها وعادت في نفس اليوم ، وضعته على صدري برفق ، اتنفس رائحته ، أحاول أن اطمئنه أني معه ، أني أحبه حباً جماً ، رغم أنف الجميع .
اقرأ عليه بعضا من القران وألف القماش عليه ، اقربه لصدري ، اليوم تنتهي نقاهتي وسأعود لعملي ، الكل يخاف لمسه لذلك سآخذه معي ، ابتسمت بأسى وأنا اهمس له .
_ يبدو أننا سنشكل فريقا للمنبوذين ياصغيري .
من رحمة الله بهذا الصغير أن حليبي يكفيه والأ من سيسمح لي بحلب الشاة !
وبمعجزة ربانية أكمل صغيري شهره الثالث ، نمى له حاجبان وأظافر لينة ، لازال يتوسد صدري ليلاً ونهاراً ، ويبتسم لي نادراً كمكأفاة تنسيني تعبي ، لففت قطعة قماش أخرى عليه ، سأذهب لمزرعة خلف الجبل، الطريق طويل ، والشتاء على الأبواب ، أخذت كسرة خبز جافة وقربة ماء ، اغني لصغيري عن غزال نزل لأسفل الوادي واصطاده أحد الصيادين ورثاء والدته له .
انهيت عملي ، جهزت حزمة أعلاف لأخذها معي ، غداً سابقى في البيت ولن أرعى الاغنام اذا أخذتها ، حاولت رفعها ، لكن شعرت بشيء غريب على صدري ، انزلت الحزمة برفق !
لا اشعر بأنفاس صغيري ، لا احس بحركته
" يا رب " همستها طويلا ، ربما هو نائم ! او اغمي عليه ، أحاول إقناع نفسي وأنا أفتح على وجهه لأراه
صدى نشيجي تناقلته الجبال و ألم مرير يتسلل لجوفي ، أنا في كابوس " يا رب " حاولت إرضاعه ، صفعته لمرات ، وجهه الخالي من الحياة واضح للعيان غير أن قلبي يأبى التصديق ، أعدته لمكانه وبدأت المسير ، أقدامي متثاقلة و فؤادي فارغ ، بدا لي أن الشمس أنطفأت وأن الظلام عم الكون .
قبل أن أدخل عتبة الباب قبلت ملامحه ونظرت لها طويلا علّ ذاكرتي تحفظها لي ، سلمته لهم ، دفن صغيري ساعتها.
بت ليلتها في ظلمات غرفتي انظر إلى بقعة من المجهول ، وقبل أن يطلع الفجر وجدتني أقرع باب اهلي حافية من كل شيء ، طبطبت أمي عليّ وهي تذكرني بحاله وأنه عاش أكثر ممن هم في حاله ، شربت حليبا دافئا ولفتني بلحاف دافئ ، دخلت في غيبوبة ما بين الصحوة والنوم ، اسمع صياح يشبه صوت والدي ، لم أفهم منه سوى بضع كلمات
"اخبريها أن تعود لبيت زوجها ، كيف خرجت في منتصف الليل ، ماذا سيقول الناس عنا "
وقبل أن يدخل عليّ وجدتني أركض عائدة ، في الطريق تزاحمت جيوش من الذكريات أمامي معظمها يشق الصخر كمدا .
عدت لأعمالي وكم كانت العودة مريرة ، لأشهر ربطت جذع شجرة على صدري علّها تملأ مكانه ، غابت الشمس أخيرا ، اضرب على الجذع بيدي رامية إياه ،أكفكف دموعي ، استدرت ورأيته أمامي ، مغاضبا كأول لقاء بيننا ، اغمضت عيناي وفتحتها ، لازال أمامي ، هو هنا حقا ، صفعته لسعت خدي ، نزلت أرضا أحتضن نفسي ، ليس هو ايضا ، آخر من تبقى لي ، سأموت لو خذلني !
طوقتني يداه قبل أن تسترسل أفكاري أكثر ، دموعه كقطرات مطر اطفأت جحيم مستعرا داخلي ، أخبرني أن أحد اصدقائه أخبره بما اعانيه وأن طفلنا مريض وأن طريق عودته شاقا كاد فيها يلقى حتفه لمرات !
الطوفان الذي تلى تلك الأيام جرف معه غبار كل تلك السنين ، سمعت فيها ابشع الألفاظ وتلقى زوجي نصيبه من الصفعات لمجرد قوله :
_ سآخذها معي
جمع والده أعيان ومشائخ من القرية في ليلة تحكيم قبلي حرمه من كل ميراثه مقابل أن يأخذني ، لوهلة ظننت انه لن يفعلها لكنه ختم على الحكم كما لو كان يشرب ماءا ، صوت ضمير خافت كاد يصيح فيّ لكني قتلته سأذهب معه لأقصى الأرض لأي مكان يخرجني من دوامة العذاب هذه !
اشرق يوم جديد وأنا أمسك بيده، يحكي لي عن مدينة أعيش فيها بلا ظلم بلا ألم سأقرأ فيها المزيد من الكتب، ونملأ بيتنا الكبير الكثير من الأطفال ، مررنا على قبر صغيري ، ودعناه ، في قفص صغير حبست ذكرياته الثمينة هي الشيء الوحيد الذي سآخذه معي ، سألني إذا كنت أريد توديع والداي لكني هززت رأسي ب " لا " هكذا أكملنا طريقنا إلى المجهول ....
تمت
مساء ذلك اليوم انتظرت أخي على جانب الطريق قادما من مدرسته ، انهيت بقية أعمالي ، وقبل النوم كعادته قرأ علي قصة ، أحب سماع القصص ، طالعت الكتاب بحسرة وانا أتمنى لو افهم تلك الخربشات !
مرّت الأسابيع كلمح البصر ، وبات موعد عرسي قريبا ، اليوم بشكل خاص طلب والدي أن احضر له الفطور في الفناء الخلفي ، خطوت خطوات مرتجفة إليه ، لم أرفع عيناي ، قرّبت طعامه ، امسك يدي بدفئ ، لم أرى ملامحه بسبب الدموع التي ملأت مقلتاي ، بدأ يوصيني بنبرة لأول مرة اسمعها ، امسح دموعي علّها تترك لي مجالا لأرى ملامحه ، لأستبدلها بتلك الملامح الجامدة العالقة في عقلي ، لكنها أبت التوقف .
لا اتذكر الكثير من يوم زفافي ، ولم أفهم تصرفاتي يومها ، كأن عقلي خرج عن سيطرته ، اتذكر القطعة الشهية من كبد الخروف التي قدمت كضيافة لنا ، وأنا أنظر لها من خلف الغطاء الأخضر الشفاف الذي حجب عني كل المشاهد و الوجوه ،عدا الروائح الشهية تلك ،حين غفلت أمي عني تسللت يدي لقطعة صغيرة ، رميتها في فمي متناسية امر انيابي التي تتساقط ، أكملت يومي أبكي مغيبة من الألم ، ودعتني أمي وذرفت المزيد من الدموع عليها و على أسناني ، بعدها بلحظات فوجئت بحجابي الذي رفع فجأة وملامح غاضبة تنظر لي قبل أن تعيده كما كان ، تعالت أصوات غاضبة و رجل يصيح
_انها طفلة ، طفلة
ماذا يحدث ؟ قلقت ، ربما هناك طفلة ضائعة ، لن اتحرك من مكاني كما امرتني أمي ، يال الطفلة المسكينة ، أعدت ترتيب غطائي وعاد ألم أسناني بقوة أكبر!
مرّت ساعات قبل أن تعود الخطوات الغاضبة ، نزع حجابي لكن هذه المرّة بالكامل وقد رقت الملامح ملامحه ، حقيقة أن هذا زوجي تخيفني كثيرا ، لطالما دعوت أن أتزوج رجلا بشوش عكس والدي تماما ، يال خيبتي فهذا يشبهه تماما .
_كم عمرك ؟
السؤال المفاجئ أخرجني من أفكاري
_ عشر سنوات.
صوتي بالكاد يسمع ، لذا كرر سؤاله فكررت إجابتي ولعجبي كانت بنفس النبرة لكنه سمعها، رأى على ملامحي الألم وقبل أن يسالني أشرت بخوف على أسناني ، اختفى لدقائق قبل أن يعود
_ هذا قرنقل ضعيه عليها لكن لا تبلعيه
هززت رأسي ، ساعدني في تغيير ملابسي ،سرّح شعري ، بادئ ذي بدء كنت خجولة لكن بشاشته طمئنتي ،ضحكت كما لم اضحك من قبل ، ربما اهذي فأنا بلا نوم ولا وطعام ،لا اتذكر كيف وصلنا لهذا الحال ، أطعمني بعض الحلوى ونمت كأني لم أكن احتضر قبلا من الألم .
توالت الأيام وأصبحت سهرتنا تلك روتين يومي ، هو يقص علي الطرائف وأخبار أسفاره إلى الهند والخليج وما لقيه من عجائب في البحار والغابات هناك وأنا أقص عليه مغامراتي بين الأودية ، عن خرافي ، اسمائهم وعن سماوي اللطيف الذي اشتاقه !
كان يقرأ كتبا كثيرة ، يقرأ لي بعضها وأحيانا افتحها لمشاهدة الصور فيها فحسب ..
_من هذا ؟
سألته حين رأيت صورة على كتاب ما
_ هذا كونفوشيوس
_ اسمه مضحك أكثر من صورته
قلتها مقهقهة
_ هل تريدين تعلم القرآءة ؟
رفعت عيناي له بحيرة
_ سأسافر قريبا وسأترك لك بعض الكتب لتتسلي بها ، حبذا لو تكتبي لي سأكون سعيدا بقرآءة أي شيء عنك .
زادت حيرتي من إصراره ، لكنه كما قال فعل ، تعلمت سريعا ، كنت شغوفة وكأني في حرب مع الزمن لأتعلم قبل رحيله ، وكم كانت فرحتي عظيمة حين بدت لي معاني تلك الخربشات الغامضة المسماة حروف !
بالرغم من لطفه معي الأ أن توجس ما في داخلي بدأ يكبر ، تارةً أراه سارحاً لا ينتبه لي وتارةً أخرى ينظر لي وكأنه ينظر لكبش على وشك أن يُذبح!
هكذا انتهى الحلم ، في غمضة عين طارت الأجنحة التي استظل بها ، وهو يوصيني أن اكتب له كل ما يحصل معي ، لم اعرف معنى كلمته الأ حين شعرت بالمؤامرات التي تحاك ضدي خفية وذلك الدلال الذي عشته ماهو الأ صراع خاضه زوجي كي يتركوني وشأني ، لكنه ببساطة قد رحل .
في البداية لم افهم ، حتى أخبرتني سلفتي أن زواجي كان بسبب دين بين والدي ووالد زوجي، لم اسمع بقية كلامها ، لان تلك الحقيقة صفعتني بلا رحمة !
بعدها صفعتني حماتي حرفياً لمرات كلما تأخرت عن عملي لثوانِ لكن ليس بألم تلك الصفعة ، تألمت ، جعت ، عطشت بفم مبتسم ، كرهت والدي ، أحلم به وهو يلقيني من أعلى الجبل ، صبرت على أمل عودة من يسمى زوجي ، فهو من تبقى لي الآن ، لكن الأشهر تحولت لسنة ثم سنين ، عاد بعد خمس سنوات ، ولم أكتب له رسالة قط .
كنت طفلة بثوب إمرأة بالِ ، برآءتي خدشت لم أعد بذلك النقاء والروح الصافية ، أخذت مني تلك السنوات ما أخذت من ظلم وشتات ، لم أرى اهلي فيها سوى مرتان ، لم يكن يسمح لي بزيارتهم ، نفسي الضائعة ترى فيهم صورة الظلم الذي تحياه .
اصنع الطعام ولا يحق لي اكله ، احلب البقر والأغنام ولا يحق لي شرب حليبها ، اجني المحاصيل ولا آكل الأ فتاتها ، والأسوأ من كل ذلك اجلب الماء ولا اغتسل به ، كان علي الذهاب إلى البئر في جوف الليل وصقيع البرد ، لا نسى نصيحة سلفتي ، غطي وجهك إذا شعرتي بقدوم أحد ، حتى لا يقول في اليوم التالي رأيت فلانة بل سيقول رأيت إحداهنّ ، أذهب وأنا ارتجف من تخيل أن أعيش ذلك الموقف وأعود وأنا ارتجف لساعات شوقا لملامح كدت انساها !
في أجازته القصيرة تلك تعلقت به أكثر ، سألني كثيرا عن السنوات التي خلت لكني أخبرته القليل ، لم أعد أثرثر كالسابق ، خفت أن أقول شيء خاطئ فيطلقني ، سيقتلني والدي ولن يقبل بي أي أحد !
اهداني كتبا جديدة وملابس أخذتها مني حماتي في اليوم التالي ، قطعا ذهبية اختفت ورأيتها بعد أيام تزين عنقها ايضا ، تغيرت معاملتهم لي جذريا ، كنت متأكدة من ذلك ، لم يبقى طويلا بضعة اسابيع وعاد لسفره ، ليخلف وراءه روحا تنمو في احشائي قلبت حياتي رأسا على عقب ، حملته وهناً على وهن ، حين اتعب تسندني جذوع الشجر والصخور ، كفرس مثقلة من شدة العدو ، استريح عليها قبل أكمل عملي ، سبعة أشهر فقط وبعد معاناة مع المخاض لأيام أنجبت صغيري ،كفرخ حمام بالكاد يتنفس .
صحته تزداد سوءا ، يوجد طبيب في القرية المجاورة ، مسيرة نصف يوم ، لكن لم يهتم أحد ، حين زارتني أمي ورأته ، قالت لي أن لا اتعلق به لأنه سيموت ، توسلت إليها أن يذهبوا به إلى الطبيب لكنها هزت رأسها وعادت في نفس اليوم ، وضعته على صدري برفق ، اتنفس رائحته ، أحاول أن اطمئنه أني معه ، أني أحبه حباً جماً ، رغم أنف الجميع .
اقرأ عليه بعضا من القران وألف القماش عليه ، اقربه لصدري ، اليوم تنتهي نقاهتي وسأعود لعملي ، الكل يخاف لمسه لذلك سآخذه معي ، ابتسمت بأسى وأنا اهمس له .
_ يبدو أننا سنشكل فريقا للمنبوذين ياصغيري .
من رحمة الله بهذا الصغير أن حليبي يكفيه والأ من سيسمح لي بحلب الشاة !
وبمعجزة ربانية أكمل صغيري شهره الثالث ، نمى له حاجبان وأظافر لينة ، لازال يتوسد صدري ليلاً ونهاراً ، ويبتسم لي نادراً كمكأفاة تنسيني تعبي ، لففت قطعة قماش أخرى عليه ، سأذهب لمزرعة خلف الجبل، الطريق طويل ، والشتاء على الأبواب ، أخذت كسرة خبز جافة وقربة ماء ، اغني لصغيري عن غزال نزل لأسفل الوادي واصطاده أحد الصيادين ورثاء والدته له .
انهيت عملي ، جهزت حزمة أعلاف لأخذها معي ، غداً سابقى في البيت ولن أرعى الاغنام اذا أخذتها ، حاولت رفعها ، لكن شعرت بشيء غريب على صدري ، انزلت الحزمة برفق !
لا اشعر بأنفاس صغيري ، لا احس بحركته
" يا رب " همستها طويلا ، ربما هو نائم ! او اغمي عليه ، أحاول إقناع نفسي وأنا أفتح على وجهه لأراه
صدى نشيجي تناقلته الجبال و ألم مرير يتسلل لجوفي ، أنا في كابوس " يا رب " حاولت إرضاعه ، صفعته لمرات ، وجهه الخالي من الحياة واضح للعيان غير أن قلبي يأبى التصديق ، أعدته لمكانه وبدأت المسير ، أقدامي متثاقلة و فؤادي فارغ ، بدا لي أن الشمس أنطفأت وأن الظلام عم الكون .
قبل أن أدخل عتبة الباب قبلت ملامحه ونظرت لها طويلا علّ ذاكرتي تحفظها لي ، سلمته لهم ، دفن صغيري ساعتها.
بت ليلتها في ظلمات غرفتي انظر إلى بقعة من المجهول ، وقبل أن يطلع الفجر وجدتني أقرع باب اهلي حافية من كل شيء ، طبطبت أمي عليّ وهي تذكرني بحاله وأنه عاش أكثر ممن هم في حاله ، شربت حليبا دافئا ولفتني بلحاف دافئ ، دخلت في غيبوبة ما بين الصحوة والنوم ، اسمع صياح يشبه صوت والدي ، لم أفهم منه سوى بضع كلمات
"اخبريها أن تعود لبيت زوجها ، كيف خرجت في منتصف الليل ، ماذا سيقول الناس عنا "
وقبل أن يدخل عليّ وجدتني أركض عائدة ، في الطريق تزاحمت جيوش من الذكريات أمامي معظمها يشق الصخر كمدا .
عدت لأعمالي وكم كانت العودة مريرة ، لأشهر ربطت جذع شجرة على صدري علّها تملأ مكانه ، غابت الشمس أخيرا ، اضرب على الجذع بيدي رامية إياه ،أكفكف دموعي ، استدرت ورأيته أمامي ، مغاضبا كأول لقاء بيننا ، اغمضت عيناي وفتحتها ، لازال أمامي ، هو هنا حقا ، صفعته لسعت خدي ، نزلت أرضا أحتضن نفسي ، ليس هو ايضا ، آخر من تبقى لي ، سأموت لو خذلني !
طوقتني يداه قبل أن تسترسل أفكاري أكثر ، دموعه كقطرات مطر اطفأت جحيم مستعرا داخلي ، أخبرني أن أحد اصدقائه أخبره بما اعانيه وأن طفلنا مريض وأن طريق عودته شاقا كاد فيها يلقى حتفه لمرات !
الطوفان الذي تلى تلك الأيام جرف معه غبار كل تلك السنين ، سمعت فيها ابشع الألفاظ وتلقى زوجي نصيبه من الصفعات لمجرد قوله :
_ سآخذها معي
جمع والده أعيان ومشائخ من القرية في ليلة تحكيم قبلي حرمه من كل ميراثه مقابل أن يأخذني ، لوهلة ظننت انه لن يفعلها لكنه ختم على الحكم كما لو كان يشرب ماءا ، صوت ضمير خافت كاد يصيح فيّ لكني قتلته سأذهب معه لأقصى الأرض لأي مكان يخرجني من دوامة العذاب هذه !
اشرق يوم جديد وأنا أمسك بيده، يحكي لي عن مدينة أعيش فيها بلا ظلم بلا ألم سأقرأ فيها المزيد من الكتب، ونملأ بيتنا الكبير الكثير من الأطفال ، مررنا على قبر صغيري ، ودعناه ، في قفص صغير حبست ذكرياته الثمينة هي الشيء الوحيد الذي سآخذه معي ، سألني إذا كنت أريد توديع والداي لكني هززت رأسي ب " لا " هكذا أكملنا طريقنا إلى المجهول ....
تمت