التجليّ الأول
إنه ولعي بالغرائب الذي قادني إلى كل تلكم المصائب، ولأنني إنسانٌ ملول جدا بطبعي لم أطق أن أحيا بالسطحية التي يحيا بها أكثر الناس، فكان أن انكببتُ على كُتب غرائب الأحداث ومصنفات عجائب الوقائع أبحث عن الجديد الذي لم يُخبَر والمجهول الذي لم يُسبَر، والمشكلات التي أعجزت عقول من قبلنا من البشر فتركوها متراكمة على عتبات التاريخ ومضوا في طريقهم متناسين..
قرأتُ الكثير من تلك الأشياء حتى تكدّست حُجرتي الصغيرة بمئات المؤلفات والمجلدات المهترئة. وكنتُ - بين الفينة والأخرى - أسمع لوم المرأة العجوز التي أكتري غرفتها، تُلقيه عليّ كلما أطلّت بوجهها المجعّد من نافذة البهو الصغيرة..
«يا هذا المنحوس.. ألن تكُفّ عن عادة تضييع النقود في التوافه ؟ أنت تؤخر ثمن الكراء مُدّعيا أنك صعلوك لا مال له فأغفر لك، وأرجئ الموعد في كل مرة.. كريمة أنا، لكن للكرم حدود، فعندما أرى كتبا جديدة لم أرها من قبل في مزبلة كتبك هذه، أعرف أنك تجمع المال.. كح كح. أنظر لبيتك أيها المنحوس.. ليس فيه شيء يُذكر، ألن تشتري دولابا، مكتبا، مزهرية، كما يفعل الطلاب الحقيقيون ؟ تبا لهذا الجيل المعتوه.. كح كح»
كذا.. ثم تمضي ببساطة !
ما أعجب أمر هذه العجوز الشمطاء، لشدّ ما تُشبه الساحرات في القصص الخرافية، مظهرا وكلاما !.. تنقصها فقط حبة كبيرة على الأنف وضحكة رفيعة مجلجلة !
ثم لماذا هذا التدخّل السافر في الشؤون الشخصية ؟ لستُ ابنها ولا حفيدها - لحسن الحظ - لتمطرني بهذا الكلام المزعج.. ولكن من يستطيع أن يردّ على هذه (المصيبة) أصلا ؟
يا هذه إليك عني ! لا أريد دولابا ولا مزهرية ولا مكنسة كهربائية.. أريد كُتبا !
* * *
الحقّ أني بالغت.. فقد جمعت كلّ الكتب التي قرأت في صناديق ورقية، ثم لما تكاثرت الصناديق ركمتُ بعضها فوق بعض ووضعتها حيثما اتفق.. ثم أتى اليوم الذي لم يعد فيه ثمة مكان شاغر تقريبا، وصار سريري محاصرا بالصناديق وأضحيتُ أنام كما لو كنتُ في مخزن سلع !
نعم.. قد بالغت، أعترف بذلك وأقرّ. والأدهى من هذا والأخطر هو نوعية الكتب التي بتّ أقرأ ! ومع ما سمعته من تحذيرات واحد من أصحابي المتدينين إلا أن عنادي وصلابة رأسي حجبا عني أكثر تلك النصائح..
كُتبُ السّحر والتعاويذ الغامضة بلغات عدة التهمتها.. وكانت شهيتي تتفتّح أكثر كلما أنهيت واحدا من تلك الكتب. شيء ما استحوذ على كياني لا أدري ما هو ! حتى لقد صرت أنسى الطعام، بل وأنسى النوم !.. ومع ذلك بقي صوت دفين يتردد بأرجاء عقلي من مكان سحيق، أسّمّع فيه أحيانا بعضا من نصائح صاحبي تُعاد عليّ، وأحيانا أخرى تأتيني مواعظٌ ووصايا تحثّني على ترك هذه العوالم التي حشرت فيها أنفي، فلو كتبتُ تلكم النصائح على ورق لحسبني من يقرأها زاهدا من كبار الزهّاد وعالما حكيما له في العلم والحكمة كثير زاد. ولكن هذا المكان المجهول الذي تأتي منه تلك الإرشادات مغلقٌ في غرفة منسية بداخل دهاليز النفس البشرية.. بابٌ موصدٌ كأنما أوصده أحدهم بإحكام لئلا ينتشر النور الذي يبرز أسفل منه، فيبدد ظلمة النفس الظلماء.. أتراه الشيطان أم الهوى ؟ لست أدري. ما أدريه هو أن هواي كان - وقتها - يفرض عليّ سلطانه، ويرفع رايته على (أراضيّ المحتلة) !
ربما أذكر يدي - مرة أو مرتين - وهي تكاد تغلق مجلدا من المجلدات، لكنها تتصلّب وهي تمسك جلدة الكتاب عاجزة، كأنما هي ليست يدي !
ماذا يحدُث لي ؟
* * *
في ذات ليلة غائمة ممطرة قمتُ من فراشي مترنحا لأفتح نافذة غرفتي وأتأمل المنظر الخارجي الهادئ كعادتي، فملأت رئتي من الهواء البارد ولامس وجنتيّ رذاذ المطر المحبّب.. من في الناس لا يحبّ هذا الجو الحالم ؟
تركتُ نصف النافذة مفتوحا حتى يتجدّد هواء الحجرة «المستعمل» وعُدت إلى فراشي..
في طريقي إلى الفراش توقّفتُ على حين فجأة، وقد انتبهتُ لأمر غريب رأيته فأغفلته !
تلك اللحظات من الحيرة الإنسانية التي يختلط فيها الوهم بالحقيقة، ويتداخل الحلم بالواقع، فتسأل نفسك إن كنت - حقا - رأيت ما رأيت ؟ أم أن نفسك رأت ولم ترَ أنت ؟.. تلك اللحظات التي تشكّ في كونك واحدا !
عُدتُ بخطى بطيئة إلى النافذة التي تبث هواء باردا بدا لي الآن فقط قارسا، قاسيا !
كُنت أمشي ببطء شديد وشعور عجيب يعتريني، وقد تمنيتُ - آنئذ - أن تبتعد النافذة عني أو أن تجرني خطواتي للوراء حتى لا أرى ما أظنني رأيته !
وصلتُ عند النافذة فتوقفتُ برهة أهدّئ من روعي وأنفض عن ذهني المشهد الشيطاني الذي علِق به.. أدخلتُ رأسي في الإطار ببطء، لم أكن أريد أن أرى، لكن كان ذلك عليّ لزاما !
نظرتُ بذهول أسفل البناية - إلى الإسفلت المبلل البرّاق - وقد كان هناك.. كما حسبتني توهمت ! فبردت أطرافي الدافئة دفعة واحدة حتى خشيتُ أن يذهب عني وعيي وأتردّى من النافذة ! فعُدت برأسي سريعا إلى الداخل، وانتبهت إلى أن شعري واقف تقريبا !
فركتُ عينيّ وفتحتهما عن آخرهما لأوسّع مُدخلهما، ثم صفعتُ النافذة بعنف وأحكمتُ رتاجها بأصابع ترفرف..
يا للهول.. إنه هناك، ينظر لي !
* * *
في صباح الغد، كنتُ جالسا بمقهى الكلية أرشُف من كأس الشاي الساخن رشفات متتالية.. شارد الذهن، وبجانبي صاحبي المتدين إياه.. أسامة.
ظلّ أسامة صامتا يرقب الفراغ مثلي، ثم إنه التفت إليّ وحدجتني عيناه من فوق نظارته الطبية وثغره يتلألأ بابتسامته المعتادة الصافية، ثم قال لي:
- ما بك يا نبيل ؟ أراك مذعورا اليوم.. هل تُراك رأيت شيئا مخيفا ؟
- تماما..
- أنا جادّ في ما أقول يا نبيل..
- وأنا..
كنتُ أجيبه وسط شرودي دون أن أنظر إليه، فأشاح بوجهه عني، وتنهّد بنفاذ صبر قبل أن يقول وكأنما فهم كل شيء:
- كم نصحتك أن تقلع عن النظر في تلك الكتب السوداء، لكن رأسك الصّلب يا أخي سوف يجرّك حتما إلى ما لا تُحمد عقباه..
رفعتُ رأسي هذه المرة وقلّبتُ فيه بصري طويلا.. رأيتُ لحيته الجميلة، وعينيه الواسعتين، فأيقنتُ فورا أنه على حق ! مثلما لو كان بداخلي - وسط أحشائي - جهاز يكشف الحقيقة، عليه زران أخضر وأحمر.. فلكأني - الآن - بذلك الجهاز يتوهّج بأخضر جميل !
رأسي صلب فعلا ! من ينكر هذا ؟ ربما لو ضربته بمطرقة لتكسّرت المطرقة ! يجب أن أدع تلك الكتب اللعينة، إلاّ أفعل تدفعني للجنون حتما !.. ولكن قبل ذلك عليّ أن أحرّر نفسي من هذا الهوى اللعين..
- نبيل ؟.. أنا هنا، هل تراني ؟
قالها أسامة ساخرا، ملوّحا بيديه، فأفقت من غيبوبتي والتفتّ أكتشف المكان كأنما أدخله أول مرة !
- نعم، نعم.. طبعا، ماذا كنا نقول ؟
- يا سلام.. سألتك هل رأيت شيئا مخيفا، قلتَ (تماما).. ماذا رأيت ؟
ارتعشَ لحمي كأنما انتبهتُ لسؤاله اللحظة فحسب، فتذكرت مشهد البارحة، فقلتُ له هامسا وقد بدا على ملامحي الارتباك:
- اسمع يا أسامة.. لم أنم البارحة، فقد كنتُ أقرأ إلى ساعة متأخرة من الليل في كتاب (شرح غريب المعان في لسان العفاريت والجان).. ثم بعد أن كلّ بصري وتعب ذهني من طول التركيز على صفحات الكتاب العتيق وخطّه المتقطّع الغريب، قمتُ إلى النافذة أفتحها لأتملّى بمنظر الغيث المنهمر كعادتي.. فرأيتُ الحيّ الخلفي الهادئ غارقا في ظلمته الباردة، ورأيت ُبقعة نور هنالك يضيئها عمود الإنارة الوحيد بتقطّع.. فكنتُ أرى أنصاف الأشياء كلّما أضاء المصباح، وأرى خيوط المطر تدكّ الأرض دكّا..
سحبت نفسا عميقا أنعشني ثم رفعت رأسي أنظر لصفحة السماء الداكنة، وقد حجبت الغيوم الكئيبة زينتها، والقمر يتراءى بصعوبة على هيئة بقعة رمادية مضبّبة..».
سكتّ لبرهة ألتقطُ أنفاسي.. كنت أطيل الوصف لعلي أغير رأيي فلا أذكر له الذي رأيت. وأسامة ينظر لي بوجه ملؤه التساؤل..
واصلتُ همسي وأنا أدنو منه مسندا مرفقي إلى الطاولة:
- تركت النافذة مفتوحة وهممتُ عائدا لحجرتي وكتابي قبل أن أفطن إلى أن عيناي التقطتا شيئا ما بين وهجات الضوء المتقطعة...
- أوووه.. ماذا رأيت يا نبيل ؟ أنت تقتلني بوصفك هذا.. أسرع أرجوك فالمحاضرة بعد ثوان !
- حسن، حسن.. احم. رأيت قطا.
- هل تعبث بي يا نبيل ؟
- كلاّ.. لا أفعل.
بلعتُ ريقي ورفعتُ ناظريّ إلى ناظريه، مركزا وضاغطا على كلماتي قلتُ:
- رأيت قطا.. واقفا على قائمتيه الخلفيتين.. ينظرُ لي ويبتسم !