إنه الشتاء المنتظر والكل يحثّ الخطى بجدية تحت سماء رمادية، مُتدفئا بأسماله من البرد، مدخّنا سيجارة وهمية، نافثا دخانها الأبيض الساخن في كل مكان..
جُلتُ ببصري بين طوفان البشر مفتّشا عن رقم العربة المدوّن على التذكرة، لقد ولّى - تقريبا - زمن التدافع والركض فوق أقدام المسافرين بحثا عن أي مقعد شاغر. لابد من الجلوس في مكانك المخصص وإلا جاء من يرمقك شزرا مطالبا بمقعده، فتقوم أنت لتطالب غيرك، ويقوم هو كذلك إلى أن يأتي من يقيم السائق من مقعده ربما !.. إن مجتمعاتنا تتقدم نظاميا فعلا، ولكن على طريقة حلزونة مُرهَقة !
داخل القطار، وبإحدى المقطورات المغلقة وجدتُ مقعدي أخيرا، المقعد رقم 39.. ثمة امرأة محجبة نصف حجاب تجلس قبالتي واضعة رجلا على رجل! تفوح منها رائحة عطر "مغرور" نفّاذ.. دخلتُ مُسلّما، ومتحاملا رفعتُ حقيبتي الثقيلة جدا لأضعها على الرف الطويل. ثم جلستُ مُتنفسا الصعداء..
"مرحبا بكم على متن البراق، القطار فائق السرعة.. سينطلق هذا القطار إلى كل من الرباط المدينة، الرباط أكدال، سلا المدينة، القنيطرة، طنجة المدينة بعد قليل.. المرجو.."
كم أمقت السفر !
لم ألبث طويلا حتى دخل المقطورة رجل أشيب وقور، يبدو من ملامحه أنه متقاعد جدا ! تلته بعد حين امرأة بدوية بدينة بجلباب أحمر ناصع، تجر ولدا لها، وكانت تسبّه وتلكزه كل دقيقة مرة أو مرتين! ثم دلف أخيرا شاب طويل مظلم الملامح واللباس، على رأسه غابة من الشعر، وتظهر من محياه علامات صحة عليلة بسبب كثرة التدخين في الغالب، وكان يحشر بأذنيه سماعات تصدح بالموسيقى كأنها مكبرات صوت !
لماذا يبدو الناس في المحطات والأسواق غرباء الأطوار لهذا الحد ؟ وأنا الذي كنت أتهم الكُتّاب بالمبالغة والتنطّع في رسم شخصيات رواياتهم !
أخرجت كتابي من حقيبة الظهر مُتجاهلا نظرات المرأة قبالتي المُتفحّصة. فردتهُ أمام ناظريّ ورُحت أهمس متكلفا القراءة كعادتي مع الصفحة الأولى. ولبثت على هيأتي تلك حتى اختلط وعيي بالسطور، وارتسمت أمامي الأفكار والمشاهد والوجوه بطريقة سحرية، مع صوت القطار الرتيب وسُباب الأم البدوي الغليظ. كمثل تقنية (الواقع المُعزّز) التي أثارت ضجة في دنيا الناس مع صدور نظارات (التفاحة المعضوضة) إياها حيث تفتح تطبيقاتك ونوافذك الرقمية فوق الثلاجة وعلى الحائط، وتكتب رسالتك على جبهة أخيك إن شئت.. القراءة كذلك واقع مُعزّز من نوع آخر، نوع عميق معجز لا قبل للإنسان به.
وهكذا ذبت في واقعي المعزز، أقلّب الصفحات بلا حساب غافلا عن غرباء الأطوار من حولي..
ويبدو أني ذبت أكثر من اللازم، حتى سقط الكتاب من يدي ونمت مترنحا..
لا أدري كم مر من الوقت، ولكن صراخ ما أعادني لعالم الشهادة، لأصحو فجأة مبحلقا أمامي، ولولا الذاكرة التي تُحفظ بمكان ما في عقولنا - من بديع خلق الله عز وجل - لتساءلت ماذا أفعل بتلك الغرفة ؟ ومن هؤلاء الغرباء الذين يتصايحون أمامي ؟!
كانت المرأة "المحجبة" تشهر أصبعها ذو الظفر الطويل كالرمح في وجه الرجل الأشيب صائحة:
- لابد أن تسحب هذه الكلمة أيها العجوز.. أسمعت ؟ اسحبها فورا!
أجابها الرجل بابتسامة هازئة، والتفت ناحية النافذة مصرا على موقفه الذي لا أعرف ما هو !
نقّلت بصري بينهم متسائلا، فتطوع الشاب السوداوي إياه ليشرح لي:
- اسمع يا صديقي، يبدو أنك إنسان مثقف وتعرف الغث من السمين، فما قولك في من يريد حبس المرأة، ويطالبها بالمكوث في البيت؟ حسن، سأضعك في الصورة.. هذا السيد طلب من السيدة أن تخفض من صوت الموسيقى بهاتفها قليلا، فرفضت وهو من حقها كما ترى، هاتفها يا أخي وهي حرة في استعماله ! فإذا به يلقي على مسامعنا محاضرة حول كلمات الأغنية البذيئة وعدم احترام الكبار، وكيف كان حياء النساء في عمره إلى آخر تلك الترهات.. ثم ختم كلامه بأن قال أن المرأة ليس لها الحق في السفر بلا محرم أصلا.. تخيل ؟ من يظن نفسه يا ترى ؟ كونفوشيوس ؟
انتبهت الآن إلى مصدر تلك الأغنية الشعبية البشعة التي أزعجتني في نومي، ولا تزال تصدح بالمكان..
فركت عيني منزعجا، ونظرت للرجل الأشيب الذي لا يبدو عليه أدنى انفعال، بل كان يبتسم غير مبال، ثابت الجنان كجلمود صخر حطّه السّيل من عل ! ثم حولت بصري للمرأة وهي على جلستها الأولى لا تزال.. رجل على رجل، ووجه منقوع في المساحيق، ونظرات قاسية متغطرسة.
ماذا يريد مني هذا أن أقول مثلا لترضى عنه سيدته المبجّلة ؟ هو يرتدي مكبرات صوت في أذنيه أصلا، فأنّى له أن يفهم معنى الإزعاج؟
إني أرى حساسية المرء للضجيج علامة على صحة ذوقه وسلامة منطقه إلى حدّ بعيد، وقد كتب أحد الكتاب الألمان المعروفين مقالا عن معاناة كل من عرف من الأدباء مع الضجيج وكيف يقطع حبل تفكيرهم، ويستبيح وحدتهم الاختيارية ويعذبهم. إنها حرب المنطق مع اللامنطق، الذوق السليم مع جيوش البلطجة الأخلاقية، فرسان الفكر مع الحمير الناهقة.
كان ينتظر جوابي بلهفة، فتململتُ بمكاني وانحنيت أحمل الكتاب من الأرض، ومسحت عنه الغبار بهدوء ثم قلت موجها نظري إليه:
- حسن، أشكرك وسأجيب بما علمني الله.. وأرجو ألا تعد جوابي محاضرة، لأنه ليس كذلك. أما مكث النساء بالبيت إلا لضرورة وسفرهن بمحرم فمن صميم الدين، فليبحث عن دينه من أضاعه. هذا أمر الله، ومن كان له إشكال شخصي مع الدين فذاك شأنه، ولا يغير رأيه من الدين شيئا.
وهذا هو المعنى الحقيقي للحرية بالمناسبة.. التحرر من نفوسنا الأمارة بالسوء والفحشاء، ومن وساوس شياطين الإنس والجن، ومن تقليد الآخرين.. من كل ما سوى الخالق سبحانه. لأن عبادته فضيلة ورفعة، وعبادة غيره مذلة وخزي. فمن فعل فقد حلّق بجناحيه بعيدا في سماء الحرية يا صديقي..
وأما الأغاني فقول كبار علماء الأمة فيها معلوم، لم يشذ في ذلك إلا ابن حزم الأندلسي وقد ردّ عليه العلماء وبينوا خطأه، فلا يخدعنّك أحد. وعجبي من هذه الأغاني الصاخبة التي تسمعون، وإخواننا في بلاد الأقصى يُقتّلون كل يوم، ففيم تفرحون؟ أترون الحياة ممتعة لهذا الحد؟ وأما عن حرية المرء في رفع صوت جهازه.. فهاك جوابي..
ثم إني أخرجت الهاتف أمام نظرات الشاب المندهشة، وبسمة الرجل الواسعة، وبحثت عن خطبة تذكر باليوم الآخر، ورفعت الصوت إلى منتهاه..
*
خالد
02-2024