إنَّ الوردة اليانعة إذَا هبَّ عليهَا نسيمٌ أطارَ بأوراقها، فكذلك كانت ريم، تلكَ الفتاةُ الغريبةُ والَّتي حسبها الجميعُ من عالمٍ غير عالمِ البشر، كانت مرهفةً ذاتَ قلبٍ يسهلُ التلاعبُ به كما يُصنع بقطعٍ من ألعاب الأطفالِ إذَا أريدَ فكَّها وتشتيتها، فكانتْ هيَ بروحِهَا البسيطة كمَا تكونُ الفكرة البسيطة في ذهنِ الطفلِ الصغير، تنمو لحظةً تلو لحظة، لكنَّها في لحظتِها تلك لا زالت طريَّةً لم تداخلها أدرانُ هذا العالم. ثمَّ إنَّها بهذه الروح لو تعلَّقت بشيءٍ أو شخصٍ لكانَ فيه معنيين، معنى التملُّك ومعنى الاتحاد مع المملوك.
كانت في العاشرة من عمرها، ورغم ذلك كانت على قدرٍ كبيرِ من الحسنِ والجمال، ما جعل كثيرًا من صُحيباتها يحسدونها على ذلك ويغبطونها، فغرائزُ الأنثى كما يقال تستيقظ باكرًا لتكرِّسها في حياتها مستقبلًا، ما يجعل من الجمال شيئًا هامًّا في حياة أي امرأة منذُ نعومة أظافرها.
أخذت ريم تتمشى سبهللا في حديقةِ المنزل الكبيرِ، تنظرُ لكلِّ شيءٍ حولها نظرةَ استغراب وتعجبٍ، بينما تنعكس أشعة الشمس -الَّتي أوشكت على الانطفاء- على الأشياء فتحيلها قرمزيةً، الأمر الَّذي طالما رأته ريم شيئًا مسليًّا يثيرُ خيالهَا الغضَّ ويطير به فوق عالم الإنس إلى عالم الملائكة، هي فتاةٌ عاشت حياتها السابقة داخل قريةٍ بسيطة، حيث لا منازل كمثل هذه المنازل الباذخة الَّتي لا يُعلم مخرجها من مدخلها بل هي أقرب ما تكون إلى متاهة لا مخرج لها. كمتاهة المينوتور الشهيرة.
توقفت ريم عند الأرجوحة الَّتي تتوسط حديقة المنزل الباذخ، وأخذت تتأملها مليًّا لتسبح بذاكرتها إلى زمنٍ مضى.
- ريم، ريم، أيتها الفتاة المدللة!
سمعت ريم صوت والدتها يأتي من بعيدٍ، فيحدثُ صدًى عجيبًا لم تكن تفهمه، فيخيَّل لذهنها الطريِّ، كأنَّه نداء يُرسل لها من بعدٍ آخر، أو من غيابات الأحلام، عجيبٌ هذا الذي يحدث للصوت، أهي الغابة تلك الَّتي تردد الكلمات أم هي الطيور؟ أللطيور كلامٌ كما هو لدينا؟ أم هي إحدى الغيلان الَّتي طالما حدَّثتها والدتها عنهم؟ أهو فخٌ لتلتهمها لتلك المخلوقات الشريرة؟ إنَّ العالم مليءٌ بالشرور كما تخبرها والدتها دائمًا، لكنَّها على غير عادةِ الأطفال لم تكن الغابة تخيفها، بل كانت تجد فيها ذلك السلام الداخليِّ، خاصةً وصديقتها مريم تجاريها في أفكارها. كان فيها شيءٌ من النقاوة الساذجة، تلك الَّتي يخيَّل بها لصاحبها أنَّ كلَّ النَّاس ملائكة تمشي على الأرض، ما منهم إلَّا المحسن والصدوق والرحيم والشفيق.
- ريم، ريم...
تردد صوتُ والدتها ثانيةً، فنظرت إلى صاحبتها وبادلتها الأخرى النظرات، كانت ملابسهما متسخة بالوحل من لعبهما على ضفة النَّهر، فقالت ريم وقد اعترتها الحيرة:
- ماذا سنفعل؟
ضحكت مريم ببراءة، ثمَّ بدأت تركض متوغلَّةً في الغابةِ أكثر، فأمالت ريم رأسها وأطلقت ضحكةً هي الأخرى وأخذت تجري وتجري مسابقةً إياها، لم تشعرا بشيءٍ إلَّا وهما قد ابتعدتا كثيرًا عن النَّهر، فتوقفت مريم فجأةً وقد انتبهت حواسها فجأةً إلى المحيط من حولها، إنَّه مكانٌ لم يسبق لهما أن وصلتا إليه، فهنا الأشجار أكثر كثافةً، والأعشابَ أكثر اخضرارًا، وكانت ريم أول من اكتشفت أنَّهما قد أضاعا الطريق، فانتابها الرعب لذلك وأخذت الدموع تحتبس في مقلتها. فقالت بصوتٍ مرتعشٍ:
- مريم، هل تذكرين الطريق!
نظرت إليها صاحبتها، وقالت متصنِّعة بعض الشجاعة الَّتي لم تنجح في إخفاء خوفها:
- لا تكوني جبانة هكذا يا ريم..
- ماذا لو لم نستطع..
- ممَّا أنت خائفةٌ هكذا، فكما يقول الكبار: كلُّ الطرق تؤدي إلى روما..
- ما معنى ذلك؟
- معنى ماذا؟
- روما تؤدي إلى الطرق..
- آه، بل الطرق هي التي تؤدي إلى روما..
- لكن ما معنى ذلك، هل سنذهب إلى روما، وأين توجد روما هذه؟
- يبدو أن حصتك من الذكاء قد سلبه سحر جمالك..
- ماذا لو..
انتظرت مريم أن تكمل ريم جملتها، ولما أيقنت أنَّها لن تكملها، قالت:
- لو ماذا؟
- ماذا لو خطفتنا عِيشَة قَنْدِيشَة؟
- هاا، لا تقلقي إنَّها تخطف الرجال فقط..
بدأت ريم تنشج وتبكي في صمتٍ بعدما طال بحثهم عن طريق العودة، غير أنَّهما في كلِّ مرَّةٍ كانتا تجدا نفسيهما في نفسِ المكان، كأنَّ الغابة قررت حبسهما داخلهما إلى الأبد، ولمَّا أخبرت ريم صديقتها مريم بهذه الفكرة، اكتفت بأن سخرت منها وقالت لها إنَّ الرسوم المتحركة قد سلبت عقلها، إلّا أنَّها مع ذلك كانت هي الأخرى على درجة من الخوف، وكان خوفها يزدادُ كلما مضى الوقت أكثر.
- مريم..
- نعم..
- ألم تقولي إنَّ كلَّ الطرق تؤدي إلى روما، فما بالنا لا نتزحزح من مكاننا؟
لم تجد مريم جوابًا لسؤالها، فاكتفت بأن هزت رأسها في استسلام، ثم أخذت تمشي وريم في ظهرها، إنَّ الأشجار ها هنا مختلفةً، هناك شعورٌ عميق ينتابها بأنَّ كلًّ ما في المكان يتحرك، فكان ذلك كمثل الشرارة الَّتي أيقظت الرعب في نفسها، ولم تمضِ سوى لحظاتٍ قبل أن تبدأ هي الأخرى في النشيج. لم يكن من عادتها البكاء لكنَّ الأمر مختلفٌ هذه المرَّة، إنَّك إذا ضُربت فإن الألم ينتهي مع الانتهاء من الضرب، لكن الخوف من الضرب تأثيرهُ أكبر فهو يتلاعب بأعصاب المرء حتَّى يحيلها إلى الانهيار.
فجأة سمعتا صوت تحطم الخشاش تحت أقدامِ مخلوقٍ ما، نظرت كل واحدةٍ إلى صاحبتها، برعبٍ وقد شعرتا بخطرٍ داهمٍ يقترب.
توقفتا عن النشيج وقد امتلأتا رعبًا، أهكذا ستنتهي حياتهما؟ ألن تكبرا وتشتريا كل الألعاب والمجوهرات التي طالما حلمتا به؟ ألن تريا والدتهما بعد هذا؟ وهل سيحزن عليهما أحد إن هما رحلتا؟ إنَّ الإنسان ليبني أحلامًا كثيرة وهو لا يدري ساعة رحيله، إنَّ هذا لعمري أقسى ما قد يرتطم به المرء، فينسيه كلَّ طموحاته ويذهب بكلِّ آماله، ويُبيد كلّ أحلامه.
خلف شجرةٍ ظهرَ شيءٌ ما، مخلوقٌ ما، لم يكن لطيفًا، كان مخيفًا، كان بشعًا، اقترب ببطء، كشَّر عن أنيابه، مشى على قائمته الخلفيتين الهوينى، عيناهُ تدوران في محجريهما دوران الكلَّة في الإناء، أذناهُ يقفان على رأس المخلوق كعمودين مترقبين.
قفزت مريم من مكانها، وأخذت تعدو، وما إن رأى المخلوق ذلك حتَّى أخذ يلاحقها، بينما بقيت ريم في مكانها ترتجف كغصنٍ ضربته العاصفة، وما هي إلّا لحظة حتى عاد المخلوق إليها، فلم تحتمل فخرت مغشيًّا عليها.
فتحت ريم عينيها رويدًا رويدًا، بذاكرة ضبابيةٍ لا تُبِينُ عن شيءٍ، ارتعشت لمَّا عادَ بعضًا من مشهد المخلوق إلى ذهنها، فصرخت صرخةً اهتزت لها جدران الكوخِ الصغير، دخلت الوالدة على إثرِ ذلك لتجد الفتاة الصغيرة ترتعش وترتجف، أمسكت بها والدتها ثمَّ حضنتها وهي تقول:
- كلُّ شيءٍ قد مرَّ يا صغيرتي، لا تخافي..
انتزعت ريم نفسها من بين أحضانِ والدتها، وقالت بصوت متهدِّج:
- صديقتي.. مريم!
نظرت لها والدتها بصمتٍ ثمَّ عادت تحضنها بقوَّةٍ، وهي تقول:
- ريم صغيرتي... مريم لم تعد موجودة.
في 16-11-2022