اسم الكاتب: جبران خليل جبران.
اسم الكتاب: الأرواح المتمردة.
نوعه: مجموعة قصصية من أربع قصص.
عدد الصفحات: 127.
لا أدري متى اقتنيتُ هذه المجموعة ولا كيف، حتَّى وجدتها في مكتبتي وقد غرَّني حجمها الصغير وقلتُ بيني وبين نفسي: «ستكونُ استراحةً جيِّدة من البيان والتبيين للجاحظ» فما إنْ شرعتُ في قراءتها حتَّى تبيًّن لي جمال لغة الكاتب، فجبران وهو يكتب كأنّه يسبك الكلمات سبكًا ويضعها متراصَّةً في نظمٍ واحدٍ كأنَّها حبَّات اللؤلؤ في العقد، فأخذتُ بهذا الجمال الَّذي بين يديَّ فترةً.
والحقيقة أنِّي استغربت من قوَّة كلماته وفصاحتها، فجبران كما قرأتُ عنه في مادة اللغة العربية في الباكالوريا، ولد في شمال لبنان وهاجر إلى الولايات المتحدَّة الأمريكية وهو صبيٌّ، وهناك أسس مع رفقائه الرابطة القلمية، وفي اعتقادي أنَّه كان شاعرًا فقط، وأقصد أنه كان يكتب شعر التفعيلة، أو الشعر النثري كما أحب أن أسميه، إذْ يعتبر من الَّذين نادوا بالتجديد؛ ولعلَّ القارئ يفهم الآن سرَّ استغرابي من لغته القويَّة والرصينة، فشخصٌ عاش حياته في المهجر من النادر جدًا أن تجدهُ يعرف كيف يكتب كلمتين عربيتين سليمتين، فكيف بأسلوب فصيح ورصين!
إذن؛ فإنَّ لغة جبران في هذه المجموعة لا يشق لها غبار، بل وأنت تقرأ تستمتع بكلِّ سطرٍ إذ ترى تلك التشبيهات البليغة والأسلوب الرقراق، وربما لو كنتُ ذا مشاعرَ مرهفةٍ لذرفت بعض الدموع، عندما يصف لك المعاناة أو حين يتحدث في الحب.
لكن بين سلاسة الأسلوب وقوَّة التعبير واللغة الفصيحة، تُبث الكثير من الأفكار الَّتي يعجب بها المبتدؤون والمراهقون وكلُّ من لا يملك حسًا نقديًّا، وإنَّ أهون توصيفٍ قد أقوله في شأن بعض القصص في هذه المجموعة، خاصة بالنسبة لقصة «وردة الهاني» و«مضجع العروس» أنَّها قصصُ مراهقٍ صيغت بأسلوبٍ جيِّدٍ، أما أشدَّ توصيفٍ يمكنني أن أنعت به هاتين القصتين وباقي القصص، هو أنَّ جبران جعل نفسه إلها يحلل ويحرم ما يشاء وكيف يشاء، وينعت ما يسميه "التقاليد" بما يجعلك تبغض مكارم الأخلاق.
في قصة «وردة الهاني» يحكي لنا جبران بكلِّ شاعرية قصة هذه "المرأة الطاهرة الفاضلة" الَّتي زُوِّجت لرجلٍ يحبُّها ويحسن إليها ويفيض عليها بالنعم، لكنَّها لا تحبُّه وتشعر بالنفور منه، فيا لقسوة هذه الشرائع الِّتي تزوِّجها لرجلٍ كهذا، رغم أنه لا يؤذيها ولا يعتدي عليها بل يعيِّشها في أحسن الأحوال؛ لكن مع ذلك هذا لم يشفع للرجل المسكين، فماذا قررت أن تفعل المرأة الطاهرة العفيفة؟ بكلِّ بساطة رأت فتًى وأحبته ثمَّ قررت أن تترك زوجها لتهرب إلى هذا الفتى وتعيش معه.. يا للعفاف والطهارة الِّتي يدافع عنها الكاتب؟ وكلَّ ذلك تحت تبريراتٍ من قبيل: «أمَّا الآن فصرتُ طاهرةً نقيَّةً لأنَّ ناموس الحبِّ قد حرَّرني، وصرتُ شريفةً وأمينةً لأنني أبطلت بيع جسدي بالخبز وأيامي بالملابس (تقصد أنّها كانت في منزل زوجها كأنَّها كانت تبيع جسدها "لزوجها" مقابل الطعام والشراب!!) نعم كنت زانية ومجرمةً عندما كان الناس يحسبونني زوجةً فاضلة، واليوم صرت طاهرةً وشريفةً وهم يحسبونني عاهرة دنيسة» ومن قبيل: «هي حرب هائلة بين شرائع الناس الفاسدة وعواطف القلب المقدّسة».
وفي قصة «مضجع العروس» تقتل العروس حبيبها في ليلة زفافها من رجل لا تحبُّه، بعدما رفض حبيبها اقتراحها حول الهروب معه بعيدًا، لأنَّ حسب جبران: «الشاب كان يسمع (يقصد طلب محبوبته) وفي نفسه يتصارع الحبُّ والشرف: ذلك الحبُّ الذي يجعل الوعر سهلًا، والظلام نورًا، وذلك الشرف الذي يقف أمام النفس، ويثنيها عن رغائبها ومنازعها، ذلك الحبُّ الذي ينزله الله على القلب، وذلك الشرف الذي تسكبه تقاليد البشر في الدماغ» فالفتاة لم تحتمل انصياعه "للشرف" وطعنته بخنجرٍ ليسقط على الأرض، ثم تصرخ حتَّى تلِّم الجمع حولهما وتسمعهم موعظةً شاعرية في الحب (أما أنا فأعتبرها موعظة فكاهية،إن كان هناك شيءٌ من هذا القبيل) وتطعن بعدها نفسها وتسقط عليه وتقبله وتمتزج دماؤهما، وطبعًا كلَّ هذا تحت لغةٍ شاعرية تنسيك حقيقة ما يحاول الكاتب إيصاله إليك، فتتشربه نفسك رويدًا رويدًا، حتَّى ترى كلَّ زواجٍ مفسدة لأنه من إنتاج الشرائع وكلّ علاقة حبٍّ وغرامٍ علاقةً قدسية لأنّ منبعها القلب المقدس!
وهكذا يتضح لك أنّ جبران لم ينادِ بالتجديد في الشعر فقط، بل تجاوز ذلك إلى ما هو أخطر، إلى الحدِّ الِّذي يسوِّق لك المنكر في حلَّةٍ أنيقةٍ تعجبك وتروق لك، ومن ثمَّ تصفق لها طربًا.
ولا أحبّ أن أتجاوز هذا إلى مناقشة القصص الأخرى، لأنّه جعل كل الشخصيات المتدينة أقرب إلى الشيطان، ولعلي أتفق معه في ذلك شيئًا ما، لأنّه خصَّ بذلك رجال الكنيسة وما كانوا يمارسونه من استغلال للفقراء من أجل زيادة ثرواتهم.
طبعًا مع التحفظ على خُطبة خليل في القصة الأخيرة، فقد وجدتها تافهة جدًا، وظل يخطب فيهم خمس صفحات، مع أنَّه بين يدي الشيخ عباس "الجبار الذي يقتل ويظلم" بصفته مجرمًا، ولو كان الشيخ عبَّاس مجرد حاكم مبتدئ لا يعرف شيئًا في أصول الحكم لضرب عنقه من أول كلمتين وأراح نفسه من تبعات تلك الخُطبة، لكنّه تركه يهذي كيفما شاء حتَّى انقلب الجميع ضده، وهذا ما أسميه أنا «أمرٌ غير منطقي» وقد تحدثت عن المنطق أمس فقط في منشورٍ نشرته على الفيسبوك!
بكلِّ أسف كنتُ أعالج نفسي علاجًا شديدًا حتَّى أتمّ هذه المجموعة القصصية رغم صغر حجمها، حيث إنّ نظيرتها في العادة أقرؤها في جلسةٍ واحدةٍ، وهذه قرأتها في ثلاث جلسات، وأتممتها بشق الأنفس.
إنِّي شخصٌ لا يقدِّس الكتَّاب كما يفعل غالبية القراء، ولا أنبهر بكل ما يلمع، ولا أجعل من أراء الآخرين رأيًا لي، وقد ألقيت نظرة في الكوود ريدز حول المراجعات التي كتبت حولها، ووجدتها كلَّها تصفيق وتقييم من خمس نجمات أو أربع! فجبران عند الكثير كاتبٌ لا يضاهي بل ربَّما لو قرأ سطوري معجبٌ من معجبيه لجعلني لا أفهم في الأدب ولا في القصة ورماني بتحكيم "الإيديولوجيا" وكأنَّ الكاتب عندما كان يكتب كان متجردًا من أفكاره ومعتقداته، أو كأنَّه ملكٌ منزل لا يجب أن تطاله يد النقد!
حمزة إزمار
سيفاو