بمنزل كنتَ دوما فيه تبتسمُ
(أبو العتاهية)
أجلسُ في مقهى متواضع يطلّ على الشارع القديم الذي كنتُ أروح فيه وأغدو - وأنا في عمر الزهور - حاملا قنينة بيضاء لأملأها حليبا طازجا من محل صغير تابع للتعاونية الفلاحية التي كان يشتغل بها أبي في قسم تربية المواشي، حيث ثلاجة تبريد ضخمة بمحرك يجعل الحليب في دوران أبدي !
رأيتُ الآن باب ذاك المحل القديم موصدا صدئا، يجلس على عتبته متشرد لون وجهه كلون الحائط الأصفر الشاحب.. في منظر روّع قلبي وأزعجه !
أنا في (... ) ملعب صباي وقريتي الساحرة المخلوطة في ذاكرتي بالعوالم الخرافية لقصص الأطفال وصفحة وادي أم الربيع المتلألئة وحقول الأزهار المتراقصة حوله في حفلة دائمة.. ومغامرات الصبا المجنونة فى منازل مهجورة، والاكتشافات العذراء الأولى وروائح الفاكهة الندية والتربة المبلولة بالمطر.. نعم، ذهبت لهناك.
وصلتُ بعد اثنتين وعشرين سنة من رحيلي عنها في السنة الإعدادية الأخيرة، سنة 1999.. وصلتُ منهكا بعد توقفي في مدينة (السبت) لتناول الإفطار. لازلتُ أنظر ساهما من مكاني بالمقهى المتواضع غير مصدّق التحوّل المهول في الشوارع وألوان البنايات العشوائية المزعجة.. ما هكذا كانت قريتي الحبيبة، كانت أبسط وأهدأ، كانت أعقل وأحكم.. كانت أجمل. ولقد - والله - كنتُ لأظنّها مدينة أخرى لولا اسمها في ذيل كل يافطة !
ما هذا ؟ كيف لم أعرف منها زقاقا ولا علامة بعد ما يقارب نصف ساعة من التوهان، وأنا أمشي ذاهلا كمن به مس !؟ نعم، إنها مدة طويلة، ولكني ما ظننتُ التغيّر يبلغ هذا الحدّ الجذري.. في الحقيقة، ما لم تكن في المدينة معالم أثرية أو طبيعية هائلة قادرة على الصمود لعقود وقرون، فلا تعوّل على البنايات والمحال لتنتظر عودتك بعد سنوات لكي تحضنها ؟ فوضى الأذواق وعبث الأيادي كفيل بتشويه كل جميل، وتحويل كل ركن ركين إلى متجر مبهرج الألوان أو ورشة تسوّد كل ما حولها بالفحم والشحم !
لكني أجاهد الآن - وقد عرفت على الأقل (شارع الحليب) هذا – لكي أستحضر ما يمكنني استحضاره من الصور والمشاعر.. وقد اغرورقت عيناي وأنا أرمق الإسفلت وأتمتم بصوت غريب: هل تذكر أيها الشارع طفلا صغيرا خجولا مشى عليك طويلا مطوّحا قارورة حليب ؟
* * *
ومن مقهى آخر - بعد عودتي – أتمّم ما كتبت، مُمسكا بيدي اليسرى ثمرة ليمون خضراء كما هي عادتي، أخدشها بظفري كل حين لأشم تلك الرائحة البريئة.. وأي براءة في عالم يسكنه البشر ؟
كانت تجربة الصباح مخيّبة لأقصى حد.. بدءا من تغير ملامح القرية وتنكّرها في وجهي، إذ أُغلِقت أزقة كنت أعرف مداخلها كما أعرف راحة يدي.. تبدّلت كل الألوان ما خلا لون السماء ! تهدّم السور المقوّس للحديقة القريبة من بيتي، حيث كنتُ أركض مع أصحابي فوق تقويساته صعودا ونزولا، وأنا أستحضر صورة (النمر المقنع) وهو يقفز من زاوية الحلبة (ليحررها من كل الشرور).. بل امّحت الحديقة نفسها بكراسيها وخضرتها. وصارت أرضا جدباء. وأما تلك المكتبة خارج سور الحديقة المهدّم فكُشط مكانها كشطا ! وقد كان ملحقا بالمكتبة محل لألعاب الفيديو، كانت لي فيه صولات وجولات مع لعبة (ملك المقاتلين) و(ميتال سلوغ)، مع المرارة التي أجدها الآن كلما تذكرت تلك النسخة الخبيثة من اللعبة الأخيرة التي يقتل بطلها الجندي الأشقر أعرابا ملتحين يركضون ببلاهة حاملين خناجرهم البدائية ! وتلك اللافتة التي تطوحها رياح الصحراء، ومكتوب عليها (مطعم تسمّم غذائي !)..
أكاد أسمع الآن أصوات صراخ المقاتلين والرصاص الملعلع في الأجواء تتلاشى ببطء وأنا أمر بمحاذاة خراب المكان الذي أرى في بعض جوانبه رماد حريق! كأن صاروخا نزل هنا ليدمر أي شيء يمكن أن أجده.. كأنه بوتين اللعين !
أواصل شق طريقي بين شبح المكتبة والحديقة التي لم تعد كذلك، نفس الطريق التي كنتُ أرتاد كل يوم للمدرسة..
وتتوالى الخيبات.. دار الشباب عن يساري صارت فجأة (مؤسسة النسوية) ! ثم.. ذاك الفراغ الذي كنتُ أجتازه بعد دار الشباب، إلا أني لا أرى الفرن الشهير عن اليمين، حيث كنتُ أبتاع قطعة حلوى (الغُريبة) بعشرين سنتيما أصفر.. ثم هاهي ذي المدرسة الحبيبة، قد صبغت جدرانها بألوان حتى ما عاد لها شكل بصري محددّ. لكني لمحت عبر الباب الموارب تلك الخضرة المنعشة التي كانت تميز محيط الإدارة، حيث كنا نصطف أمام المصور بخجل لالتقاط تلك اللقطات التي لولاها لشككنا ربما في حقيقة تلك الذكريات التي تتراقص أمامنا كسراب بقيعة كلما استبدّ بنا عطش السنين !
ثم ماذا ؟.. منزل صديقي الأول على الإطلاق، ابن الممرض، ذاك الطفل الذكي النحيف الذي لم يكن يرتدي إلا ما كان لونه أحمرا.. حتى حذائه، هشام. منزله الغرائبي الذي كان محاطا بسور من قصب يغطيه نبات متسلّق في مشهد آسر، كبيت غامض وسط غابة الأمازون !.. حسن، لقد صار يحوطه الآن حائط اسمنتي قبيح ! فلنرحل من هنا..
ثم ماذا ؟.. آه، كيف نسيت الأهم ؟ أم تراني تحاشيت ذكره لشدة هوله ؟ إنه بيتي الحبيب طبعا.. قبل أن نصل شبح المكتبة والسور المهدّم. ذاك البيت من طابق واحد، حيث مأواي الأول، المكان الذي قرأت فيه أولى قصصي، وشاهدت كل حلقات رسومي.. أتدرون إلى ماذا صار ؟ حسن، كيف أقولها ؟..
ثمة بيت قصديري قبيح يغطي مدخله ! وعلى الحائط كلمة روض وصور أطفال نصف ممسوحة.. أي أنه صار روضا للأطفال ثم أغلق أبوابه ورحل الأطفال الذين لم أعرف واحدا منهم !
من خلال باب العلبة القصديرية تبدّت لي آلات خياطة وأكوام من الثياب. إنه دكان خيّاط إذن.. دكان خياطة قصديري يحوط بيتا ؟ أي شيء هذا؟ وأي ناس هؤلاء ؟
انقبض صدري حتى كادت تختلف أضلاعه، وأحسست ما يُشبه الإهانة !.. لقد دنّسوا ملعب صباي وشوّهوه، وصار مدخل بيتي (الأسطوري) أبشع مدخل بيت رأيته في حياتي!
يا دنيا إليك عني، فناسك لا أمان لهم.. سأخبر أبنائي بكل شيء! سأخبرهم ألا يستأمنوا ذكرياتهم أحدا من البشر فلن يجدوا عند عودتهم شيئا !
خالد
21-06-2022