إن الغضب لشيء مخيف حقا !
كنتُ اليوم أصعد الدرج الحلزوني حيث غرفتي الصغيرة بسطح العمارة، مطأطئ الرأس حيران أسفا.. لقد كانت ربما المقابلة المائة التي أفشل فيها فشلا ذريعا..
لن يستقيم لساني أبدا بهذه الفرنسية اللعينة التي يطلبون منك أن تُقدّم بها مسرحية تمثيلية كاملة عن نفسك ومسارك ومشاعرك وعيوبك ومزاياك كما لو كنتَ (جان فالجان) نفسه !
غضبت غضبا عارما إذ وصلت أمام الباب الرمادي المتهالك لغرفتي التي تفضّل عليّ بها بعضهم مجانا، و(مجانا) هذه ليست مجانية تماما كما تظن !
رحت أفتّش عن المفاتيح بجيبي كالمسعور ثم ركلت الباب بعنف وبلا سبب مقنع لركله، لتمرق بجانب رأسي بغتة حمامة مرفرفة بصخب، مصدرة ذاك الصوت الحنجري المألوف، فانكمشتُ محاذرا وقد شحب وجهي ثم انتصبتُ فصرخت بما أوتيت من صوت أني قاتلها ولابد!
حطّت الحمامة البيضاء على حافّة سور السطح المقابل لي ضامة جناحيها من الرهب، وظلّت ترمقني بصمت مُتعجّب كأنما صُدمتْ مما تلفّظت به للتو !
ظللتُ بدوري أرمقها طويلا والمفتاح في يدي ذاهلا.. شيء ما شدني إليها ! كم هي جميلة هذه الحمامة.. كيف لم أنتبه لهذا من قبل ؟
ثم تذكرت فجأة أنها لم تكن السبب في ما جرى لي اليوم ولا كانت السبب في بطالتي وسوء حظي. لم تفعل لي شيئا هذه المخلوقة البيضاء الطاهرة إلا أني أخفتها حيث كانت قابعة كعادتها في كوة فوق الباب فاضطربت وفرّت..
2
أما هذا فمختلف عن كل البشر الذين رأيت. إنه وحيد كعجائز الحمام عندنا. رغم أنه ليس عجوزا.. لذلك لستُ أفهم مشكلته بالضبط ! هل ترفضه إناث البشر ؟ لا أعرف ما يطلبنه من الذكور، لكني أراه جميلا ويأتيني صوته مريحا دافئا عندما يدندن أو يحدث نفسه أو يفرش سجادته في السطح ليصلي.. ناهيك عن تلك الطاقة الجميلة التي تشع منه في أغلب الأوقات. نحن معشر الحمائم نفهم هذه الأمور..
أحسب أني لو كنت إنسانة لما ترددت في العيش معه في شجرة... أقصد في حفرة من هذه الحفر التي يسكنون بها. ليتني فقط أفهم الذي ألجأه لركل الباب هذا اليوم بعنف ذكرني بالسكير إياه، ثم تلك الصيحة المهددة التي أطلقها تجاهي مع نظرة مخيفة ارتعش لها جسدي!.. إلا أنه لم يلبث حتى هدأ بعدها، وابتسم تلك الابتسامة التي أفرح كلما رأيتها على وجهه.
ألا ليتني أعرف ما بك أيها البشري الغريب !
3
كنتُ أجرع شايا ساخنا من كأس أضعه على الأرض ثم أعود لمذكرتي الفاخرة وأنا متربع على فراشي، أتظاهر بأني كاتب عبقري في بداياته التعيسة..
وكذلك كنت أتنقل بين الكأس والمذكرة إذ حانت مني فجأة نظرة تجاه الباب الموارب لأراها عند العتبة !
كانت تراقبني بفضول.. تلك الحمامة الجميلة !
ابتسمتُ ابتسامة واسعة وقد أفرحني وجودها.. كانت أول مرة أراها بذاك القرب.. يا لجمالها ! ويا لبياض ريشها! وحمرة منقارها التي تشبه حمرة الخجل ! وتلك الساقان الدقيقتان، والجناحان اللذان يبدوان كيدين معقودتين للخلف، وإنهما لجديرتان بالحلي والذهب.. يا لها من حمامة حسناء !
هل جُننت ؟!..
فكرتُ في شيء أعطيه إياها لتأكله، ولو قدرت لقدمت لها كعكا أو أكلا فاخرا مما يأكل البشر.. وضعت المذكرة جانبا، وأنّى لي الكتابة بحضرة هذا الجمال ؟
قمتُ وأنا أنوي أن أضع لها شيئا من فتات الخبز، وربما صببت لها ماء في وعاء ما..
لكن ما إن استويت قائما حتى رفرفت طائرة ولم تُعقّب..
4
وأغرب من ذلكم أني كنتُ أزمع السفر خلال هذه الأيام، بعد أن رحل صغاري وحان موسم الهجرة عندنا لولا أن صورة هذا البشري ملأت رأسي الصغير فقعدت مكاني !
حرتُ طويلا حتى أني انطلقتُ محلقة في الفضاء لعل نشوة التحليق تعينني لأجد جوابا.. هل أبقى بجانبه حتى أتأكد من أنه عاد لطبيعته المرحة أم أرحل ببساطة كما أفعل كل موسم ولا أبالي ؟
بالأمس حطّت حمامة بقربي على سور السطح، وتساءلت عن سبب بقائي بهذا المكان المقفر من المدينة، فلما لم أعرف كيف أجيبها.. سخرت مني وطارت!
وفي ظهر اليوم حيث كان الهدوء يعمّ المكان، بدا لي باب غرفته مواربا فخطرت لي فكرة لم تخطر ربما لحمامة من قبل، وهي أن أدخل لألقي عليه إطلالة، فما أظن قلبي الصغير يهدأ حتى أراه، وليكن بعدها ما يكون..
ولقد رأيته ورآني.. وابتسمَ لي وابتسمت. لكنه لم يفقه تبسّمي !
5
لقد تركتُ لحمامتي الحبيبة قمحا وماء في مكان آمن من السطح حتى تأكل مطمئنة.. وقد أكلت.
ثم خطرت لي فكرة لا أدري لعلها تكون أنانية بعض الأنانية.. وهي أن أشتري قفصا !
وقد كان بعد بحث طويل مضن في السوق أن وجدت قفصا كبيرا، أكبر مما تصورت.. ولقد ابتعته رغم قلة مالي. ورغم أني لا أملك أي طريقة للإمساك بها، وهي تخاف حتى من ظلي إن برز لها.. فهي فيما يبدو حمامة لم يمسسها قبلي إنس ولا جان !.. وقد شغفت بها!
وضعت القفص في البيت وجربت فتح بابه الصغير وإغلاقه مرارا، كما ملأت خزان القمح بداخله وأسطوانة الماء..
نعم، قد يكون شبيها بالسجن.. لكني أرغب في سجنها حبا لا تعذيبا. أوَلا يسمّون الزواج قفصا ذهبيا ؟ ثم إني لن أجعلها فيه للأبد، فقط.. فقط..
إنها تُطلّ من خلف الباب مثل المرة السابقة !
كانت ترمقني بعينها الجانبية فيما يُشبه اللهفة! وفي خدها حُمرة وعلى منقارها ما يُشبه الابتسامة !.. نعم، ابتسامة !
بقيت متسمرا مكاني، لا أدري أأقوم "لأوقع بها" أم أنتظر لعلها تتقدم قليلا، فأغلق الباب خلفها بطريقة ما !
كان القفص الكبير قابعا وسط البيت حيث تركته، وبابه الصغير قد نسيته مفتوحا..
تقدمتْ بهدوء وثقة.. ودخلت القفص !